من الفصحى إلى "العربيزي" (4)

ما هي لغتنا القادمة؟

 

د. صالح الفهدي

بَعْد إنهاء الوجود العربي في الأندلس عام 1492م، أُجبر من تبقَّى من أهلها على كتابة العربية بحروف إسبانية من أجلِ محق هوية العرب الذين تبقّوا فيها، وعند ضياعِ اللغةِ تضيعُ الجذور، والذاكرةُ، والتاريخ، والانتماء، وبضياع اللغة العربية يضيع الدينُ الإسلامي، وتُمحق الهويات.

ولربما يتساءل البعض: هل توجد في إسبانيا اليوم عائلات من نسل العرب أو بني أُمية؟ نقولُ نعم؛ فهناك عائلات إسبانية معروفة من نسل عربي، بل ومن نسل بني أُميَّة! ولكن كما قُلنا إن ضياع اللغةِ العربية أولاً، ثم التنصير وغير ذلك من العوامل الثقافية قد غيَّرت كل شيءٍ مع بقاءِ النسل الذي يُذكر لبعض العائلات؛ حيث تؤكِّد إلينا بونيتا وهي باحثة في علم الاجتماع بجامعة برشلونة، في مقابلةٍ مع صحيفة الوطن القطرية، وجودَ عائلات كثيرة في إسبانيا مازالت تحتفظ بألقابها العربية «الكُنْيَة»، لكنها بالطبع حُرِّفت إلى طريقة النطق باللغة الإسبانية، ويسكن أغلبهم في مدن الجنوب الإسباني مثل «غرناطة ومالقا وسيفيلا»، ومدن الضفة الأخرى في إفريقيا «سبته وميليلة» الواقعة تحت السيادة الإسبانية، ويبلغ عددهم تقريباً حسب بعض الإحصائيات حوالي 3 ملايين نسمة، مسجلة «كُنياتهم» كأصول عربية صريحة.

إنَّ ضياع لغة أمَّةٍ يعني تشتَّتها، وتشرذمها، وإن هي تبنَّتْ بعد قرونٍ لغةً ما، فإنَّ هذه اللغة إن لم تكن مستمدَّةً من منابعها وأصولها فإنِّها ستحملُ معها الثقافات التي جاءت منها، كما يحملُ مجرى الماءِ العناصر التي تميِّزهُ عن غيره، وفي هذا يضرب الأديب جرجي زيدان في كتابه "اللغة العربية كائن حي" المثل باللغة التركية قائلاً: "على أننا لا نقول في هذا الانطلاق نحو ما يقوله الإفرنج في لغاتهم؛ لأن شأننا في لغتنا غير شؤونهم في لغاتهم، فلا بُد لنا مع هذا الإطلاق من الرجوع إلى القواعد العامة والروابط الأساسية؛ فلا نفسد اللغة بألفاظ العامة وتراكيبهم، ولا نكثر من الدخيل حتى تصير لغتنا مثل اللغة التركية العثمانية، التي أصبحت لكثرة ما أدخلوه فيها من ألفاظ عربية وفارسية وإفرنجية لا مثيل لها في العالم إلا اللغة الهندستانية (الأوردية)، التي يكتب بها الهنود جرائدهم وكتبهم. أما اللغة العثمانية فإذا عُدَّت ألفاظها باعتبار اللغات المؤلفة هي منها، لكانت نحو 70 في المائة من الألفاظ العربية، و15 في المائة من الفارسية، و5 في المائة من اللغات الإفرنجية، و10 في المائة فقط من الألفاظ التركية الأصلية. ويقال نحو ذلك في اللغة الأوردية وفي اللغة المالطية".

وإذا كانت أدوات الاستعمار قد تغيَّرت في هذا العصر، فإن الأدوات الحالية هي أقوى أثراً لأنها تشكِّل قوَّة ناعمة لا تشعرُ بها الشعوب، ولا تحسُّ بها الأُمم، فهي تأتي من أبوابٍ شتى عبر وسائط التقانة، ومنافذها، وبرامجها، وشاشاتها.

وهذه كلها تحملُ في عقيدتها المعولمة هدف تمييع الهويات، وضياع الخصوصيات، وإعادة تشكيلها إلى النحو الذي يسهل عليها توجيهه، ولعل محق اللغة/اللهجات يأتي في مقدمة أهدافها؛ ولعلنا نستذكر هنا أول ما فعله القس دانلوب الذي استقدمهُ اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في (17 مارس 1897) إبان الاحتلال الإنجليزي لمصر ليكون مستشاره لتوجيه التعليم، وهو العمل على محاربة اللغة العربية والإسلام والأزهر، والعمل على اضطهاد معلمي اللغة العربية من الأزهريين، ونشر اللغة الإنجليزية لتشمل جميع أوجه التعليم، مما ممكَّنهُ من إضعاف اللغة العربية، والتضييق عليها.

وها نحنُ اليوم -طواعيةً- نفعلُ ما كان يعملُ عليه الرجلُ بجهدٍ مضنٍ، معتقدين أن في ذلك تحضُّرنا، ورقيِّنا، ووالله ما تحضَّرت ولا ارتقت أمَّة تخلَّت عن لغتها، واستبدلتها بلغةٍ أُخرى.

إن نظرتنا لهذا التغيُّر الخطير لا يجب أن تكون مجرَّد نظرةٍ سطحية إلى تقليعةٍ ما تلبثُ أن تغيب، كما غاب غيرها من التقليعات، فذلك يدلُّ على جهلنا لعمقِ مثل هذه المتغيرات على الهُويات، إنما علينا أن نُدركَ بوعي ونضج ومسؤولية أن هذه التغيرات التي أصبحت تخرِّجُ لنا جيلاً لا يستطيع أن يعبِّر عن مشاعره، ولا يتكلم في شؤون حياته، ولا يتحدث في قضاياه بلغته أو بلهجته المشتقة من لغته الأم، وإنما بلغةٍ هجينةٍ هي أقرب إلى لغة الروبوتات تسمَّى "العربيزي".

يقُول الناقد صبرى حافظ أستاذ اللغة العربية المعاصرة والأدب المقارن فى جامعة لندن: "إن لغة الإنترنت الجديدة ليست مجرد لغة من مفردات غريبة، وإنما هى بنية تصورية وأيديولوجية مغايرة تشكِّلُ خطراً ملموساً على علاقات القوى القديمة". ويضيف: "نحن لسنا إذن إزاء تغيُّر سطحيٍّ للغة كما يحلو للبعض تصويره، ولسنا بإزاء مجموعة من الشباب الذين يجيدون اللغة العربية فيلجؤون إلى تلك اللغة الهجين الغريبة التى تمزج العامية بالفصحى والعربية بالإنجليزية، لكننا حيال مجموعة من المتغيرات والاحتياجات الاجتماعية والسياسية معا، تحتاج إلى التعبير عن نفسها وتسعى لخلق لغة جديدة لها تعبِّر بها عن رؤاها وعن آليات حِراكها الجديد".

... إنَّ علينا مسؤولية تاريخية تقعُ أولاً على صانعي القرار في التعليم وفي الجهات المكلَّفة برعاية شؤون المجتمع، والحفاظ على ثقافته، وهويته، وصيانة قيم المواطنة، والمسؤولة عن آدابه وفنونه وجميع ما يتصل بشخصيته التاريخية، ومساراته التنموية المختلفة، فالتقدم الحقيقي ليس إضافة المشاريع المادية وإنما بناء هوية متماسكة، قوية، إيجابية للإنسان ليكون متفاعلاً بصورة حضارية مع مختلف المتغيرات، ومتعاطياً بشكلٍ ناضجٍ ومسؤول مع كل ما يدور حوله من استهداف لكيانه الثقافي الذي يقصدُ تمييعه، وتنميطه، وتذويبه فيصبح كالنواة التي تخرجُ من مدارها لتتوه في الفضاء تبحث لها عن مدارٍ يؤويها، وتعيشُ فيه غريبةً في ذلك المأوى الجديد.

نرى بأم أعيننا اليوم أُممًا تشرذمت ثقافيًا تكافحُ من أجل أن يكون لها كيانها المستقل، وفي هذا السبيل تدفع بأرواحها ومصائرِ أبنائها مقابل العنت والقسوة الذي تواجهه من الدول التي ترى أن ذلك الكيان يشكِّل تهديداً لها.. ذلك مصيرٌ لا نرجوهُ أبداً لأمتنا في مستقبل أيامها، ولكن على شرط أن تكون هي واعيةٌ بهذا المصير!