"كورونا".. أزمة متفردة (2-3)

 

 

عبيدلي العبيدلي

ورُبما يستغرب البعض من القراء حين يعرف أن الإنسان، وبفضل عنصر الشر الذي يسيطر على البعض من البشر، طور علما أصبح يعرف بـ"الإدارة بالأزمات Management by Crisis"، يقوم على افتعال أزمة معينة، يهدف من يقف وراءها، شخصا كان ذلك المولد لها أم مؤسسة، للسيطرة أو التحكم في محيط ما، قد يكون شركة، لكنه قد يرقى كي يصل إلى مستوى كيان سياسي، وربما منطقة سياسية مثل منطقة الشرق الأوسط.

وأهم عنصر من عناصر نجاح الإدارة بالأزمات، هو الإعداد بشكل مسبق لها، وتهيئة المسرح "الأزمَوِي" المناسب لها، وتوزيع الأدوار على قوى صنع الأزمة، أو المنخرطة فيها، واختيار التوقيت الملائم لتفجيرها، وإيجاد المبرر والذريعة لهذا التفجير، وكذلك الاستمرار حتى تحقيق الهدف.

وفي كثير من الحالات يصعب اقتفاء أثر العلاقة بين "توليد الأزمة المفتعلة"، والهدف المراد تحقيقه من وراء تفجيرها، خاصة في مجال العلاقات السياسية، وعلى وجه الخصوص الدولية منها.

وهناك من يورد حادثة قتل 12 معتقلا بولنديا في المعسكرات بعد إلباسهم ملابس القوات البولندية، بأنها افتعال أزمة كي يتسنى لهتلر إعلان الحرب على بولندا وإشعال نيران الحرب الكونية الثانية.  

وعلى المستوى العربي، وفي نطاق التاريخ الحديث، لا يزال الكثير منا يحاول تفسير الحقيقة المباشرة التي أدت إلى الحرب العربية - الصهيونية في العام 1967، والتي أدت لتوجيه ضربة قاصمة لأقوى مؤسسة عسكرية عربية، بل قادت إلى إجهاض أكبر مشروع عربي في تاريخنا المعاصر. لكننا نجد بعض المصادر القريبة من الاستخبارات المركزية الأمريكية، ترجعها إلى أن هدف افتعال الحرب كان وقف الأزمة التي أشعلها مد التيار الناصري الذي بدأ يغرس جذوره في حركة التحرر العربية المناوئة للوجود الأجنبي الغربي في المنطقة أولا، ومواجهة عاصفة تحديث الأنظمة العربية "المحافظة" ثانيا.

ولعل المتابع لخط سير الأحداث التي ألمت بالمنطقة العربية منذ العقد الأخير من القرن العشرين حتى يومنا هذا سيجد تفسيرات مقنعة لتطبيق منهج "الإدارة بالأزمات" على تلك الأزمات التي اجتاحت، ولا تزال العديد من البلدان العربية.

فهُناك من يرى في الرحلة التي بدأت بغزو صدام للكويت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي مرورا بإسقاط نظام صدام، وصولا إلى الحالة المزرية التي وصلت لها الأوضاع الراهنة في العراق الكثير من المؤشرات على تطبيق منهج "الإدارة بالأزمات"، على مراحل، ولمدة طويلة استغرقت ما يزي على الربع قرن.

وللكاتبة ندى علي مقالة تفصيلية مطولة حول "الإدارة بالأزمات"، تشير فيها إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن اللجوء إلى مثل هذا المنهج، يقتضي توزيع الإدارة بالأزمات إلى مجموعة متتابعة من المراحل تصل إلى سبع مراحل، تبدأ بـ " الإعداد والتحضير والتمهيد لولادة الأزمة"، حتى تصل إلى مرحلة "رحلة ابتزاز الطرف المستهدف (مرحلة جني المكاسب)".

على أن الأهم بينها جميعا هو المرحلة الثانية التي تصفها الكاتبة بـ"مرحلة تصعيد الأزمة وتنميتها (مرحلة التعبئة للأزمة المصنوعة)"، حيث ترى الكاتبة أنه "وفي هذه المرحلة يجري التركيز على حشد وتجميع كل الأطراف وكل القوى المعادية للطرف المستهدف في المنظمة، ويجري التركيز على التصعيد العنيف للأزمة، وإيصال هذه الأزمة إلى درجة عالية، وإيقاع الطرف المستهدف في شباكها عبر وضع مجموعة من التكتيكات المتكاملة التي تعمل في كل الاتجاهات والأبعاد، وأهم هذه التكتيكات:

 

- تكتيك التصعيد الأفقي: يطبق تكتيك التصعيد الأفقي ويمارس من خلال الاعتماد على مصادر داخلية ومصادر خارجية.

- تكتيك التصعيد العمودي (الرأسي): يركز تكتيك التصعيد العمودي (الرأسي) على إيجاد وتوفير كمية كبيرة من الضغوط المتتابعة من خلال توليدها من مصدر واحد فقط (وليس من عدة مصادر كما هو الحال في تكتيك التصاعد الأفقي).

- تكتيك التصعيد الدائري التراكمي: إن تكتيك التصعيد الدائري المتراكم هو نوع من التكتيكات التي تستخدم لزيادة حده وقوة الأزمة صعودا وهبوطا، بحيث يتم تصعيد الأزمة بصورة كبيرة جدا، ثم يجري تخفيف حده الأزمة لمدة محدودة، ثم يتم تصعيدها مرة أخرى وزيادة الضغوط على الطرف المستهدف.

ولربما أول الصفات التي تجعل من الكورونا جائحة متفردة، هو أن معالجتها تندرج فيما يمكن أن نطلق عليه "الحل بالأزمات"، دون الوقوع فريسة في الأخذ بنظرية المؤامرة.

فأول عنصر من عناصر نجاح "الإدارة بالأزمة"، هو تحاشيها اللجوء إلى أسلوب المؤامرات، الذي تستعيض عنها بالاستفادة من الظروف الملائمة التي تحيط بمنطقة "الإدارة بالأزمات".

فليس سرًّا القول بأنَّ العالم، وقبل "اندلاع" جائحة الكورونا، كان مُقبِلا على أزمة حذر منها مقال نُشِر في العام 2018 على موقع "سكاي نيوز" العربي، يقول إنه "وبحسب موقع (فورتشن)، فإن مصرف "جي.بي مورجان تشيس"، وهو مصرف أمريكي متعدد الجنسيات، توقع بشأن التاريخ المحتمل لاندلاع الأزمة المالية المقبلة، حيث رجح أن تضرب العالم سنة 2020، أي أن الهزة الاقتصادية ستعصف بالاقتصاديات العالمية في غضون عامين فقط".

وتقرير آخر صادر عن إدارة المخاطر في بنك "جي.بي مورجان" الأمريكي، يتوقع "نشوب أزمة مالية عالمية جديدة عام 2020، وتأتي التوقعات بناءً على تحليلات لحركة وأداء السوق خلال 10 أعوام من اندلاع الأزمة السابقة في 2008، كما استند التقرير في حساباته على نتائج معتمدة حول مدى التوسع الاقتصادي المحتمل في الانكماش المقبل، ودرجة التحوط وتقييمات أسعار الأصول ومستوى رفع القيود والابتكار المالي قبل الأزمة".

ويحذِّر التقرير ذاته من أنَّه وفي "حال حدوث أزمة مالية أن تتراجع الأسهم الأمريكية بنحو 20%، وتقفز أقساط عوائد سندات الشركات الأمريكية بنسبة 1.15%، إلى جانب هبوط 39% في أسعار الطاقة، و29% في المعادن الأساسية... (كما أن) هوامش الديون الحكومية بالأسواق الناشئة ستشهد زيادة قدرها 2.79%، فيما سيهبط سوق الأسهم بالأسواق الناشئة بنسبة 48%، وستتراجع عملاتها بنحو 14.4%".