ما هي لغتنا القادمة؟! (1)

من الفصحى إلى العربيزي

 

د. صالح الفهدي

اللغةُ هي كائنٌ حيُّ ينمو ويتطوَّر أو ينكمشُ ويتلاشى وذلك بحسب عناصر معيَّنةٍ حضوراً، أو غياباً. اللغةُ تتطوَّر أو على أقلِّ تقديرِ تتعايش مع الإنسان في حال موافقتها لأمرين اثنين؛ الأول: مصاحبتها للتطوُّر المعيشي للإنسان بما في ذلك من تطوِّرٍ لأنماط الحياة، ومنتجات المعيشة (ضرورية وكمالية) بما تصحبه معها من أفكار وثقافات، وهو ما يستدعي نشأة قاموس جديد للمُفردات تتولَّد من خلال اللغةِ الأم أو تستعيرها من لغات الدول المُصنِّعة. ثانياً: أن تكون لغة كلام لا لغة كتابةٍ وحسب؛ لأنَّ لغة الكلام هي التي تتصل بالآخرين اتصالاً طبيعياً، وتخلق الحوارات التفاعلية معهم وبالتالي تكتسبُ قوة ديمومتها، وتطوُّرها.

واللغةُ العربيةُ هي أثرى اللغات قاطبةً في التاريخ وهي من أقدم اللغات السامية، كرَّمها كتابُ اللهِ المقدَّس الذي أنزلهُ على رسوله الأكرم عليه أفضلُ الصلاة والسلام، وهي لغةٌ تمتلكُ خواص جمالية لا توجدُ في لغةٍ أُخرى من لغاتِ البشرِ كالجناس، والطباق، والمجاز، والسَّجع، والتشبيه، وتتميَّزُ بثرائها في كثرة المرادفات، والمشتركات اللفظية، يقول عنها المستشرق الفرنسي رينان: "من أغرب المُدْهِشَات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرُّحل تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسب نظام مبانيها، ولم يُعْرَف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبَارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة".

واللغةُ العربيةُ لغةٌ ولاَّدةٌ إذا ما أَحسن أبناؤها استعمالها، وأخلصوا في توظيفها، وفي ذلك يقول الشاعر المصري حافظ إبراهيم على لسانِ العربية:

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية // وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة // وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ

أنا البحر في أحشائه الدر كامن // فهل سألوا الغوَّاص عن صدفاتي

على أنَّ أبناءها قد استغنوا عنها في كلامهم بلهجاتٍ لا تكادُ تبينُ مفردات بعضها للسامع العربي..! وتركوها للأوراق الجامدة، فأصبحت رهينة الأرفف، وحبيسة الأوراق، تكاد تكرِّرُ مفرداتها، ولا تغيِّر مشتقاتها، إلاَّ بتغيير خيالِ الشعراءِ والقاصِّين والرواة للصور الشعرية مع بقاء الألفاظِ كما هي في معانيها اللغوية.

بيدَ أننا نستدركُ القولَ بأنَّ اللهجات إنَّما هي فروع اللغة الأم، فلكلِّ قومٍ لهجاتهم المشتقة من العربية، وقد تحدَّث بهذه اللهجات رسولنا الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام وهو يخاطبُ بعض العرب بكلام لم يفهمه الصحابة، بل إنَّ القرآن الكريم قُرأ بلهجاتٍ مختلفة، وأقرَّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقول في صحيح مسلم:"فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا". إذن فاللهجات إنما هي فروعٌ من أصل، فأغلبُ الألفاظ في اللهجات إنما لها أصلٌ في اللغة العربية عدا الكلمات المعربة والدخيلة فيها.

لكننا- ونحن أبناءُ العربية- نغبطُ الذين تعلموا النطق بالعربية فأصبحوا أفصح منَّا لسانا، وأوضحُ منِّا بياناً، وهم يتحدثونها، ونحن نتلكع ونتلعثم بها، فقد أصبحت العربية عندنا لغةَ منابر، وأوراق، فإذا أراد ابنُ العربية أن يتحدَّث بها فإنِّه سيجد صعوبةً بالغةً للتحدُّث بها ارتجالاً لأنه لا يستخدمها في حياتهِ العامَّة، بل حتى في المراسلات العامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقد أصبح يقطِّعُ من أحرفها اختصاراً فيكتبُ "على": ع، ويكتب "في": ف!

وتدخل المصطلحات الأجنبية في لغةِ التحدُّث طواعيةً أو قسراً، فالطواعيةُ تأتي من باب التباهي باستخدام كلمات أجنبية، مصاحبةٍ بشعور التحضُّر والرقي، وذلك شعورٌ أخرق!، أمَّا القسرُ فيأتي من باب استخدام مفردات دخيلةٍ لم تعرَّب اقتضت الضرورة دخولها.

وهكذا يبدأُ الانزياح من لهجةٍ لها أصلٌ في اللغةِ الأمِّ إلى وعاءٍ لغويٍّ هو أشبهُ بالمردم الذي تُلقى فيه أنواعٌ من المخلَّفات! فتتكوَّن لغةٌ جديدةٌ تكتسبُ شرعيتها بحسب الحاجةِ إليها مع مرور الأيام، وتسارع وتيرة التغيير في الموجةِ الصناعية الرابعة.

واليوم نحنُ أمام معضلةٍ كبرى، ستُؤدي بنا إن لم نفق من غفلتنا إلى أن نكون أغراباً على لغتنا العربية، بعد أن نفقد لهجاتنا الدارجةِ ونتحدث لغةً يُطلق عليها اليوم اسماً مستهجناً هو "العربيزي"؛ والعربيزي كما تعرِّفها مواقعَ مُختلفة هي لغة الأرقام أو أحرف الشات وتسمى أيضاً بلغة الفرانكو وهي عبارة عن لغة تواصل عربية بالأحرف الإنجليزية مستحدثة وغير رسمية ولها قواعد شائعة ولكنها غير محددة يتم استخدامها بين أوساط الشباب في التواصل عبر الرسائل النصِّية وبرامج الدردشة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي وسميت بالعربيزية لأنها تكتب اللغة العربية بأحرف إنجليزية.

في هذه اللغة الدخيلة بأكملها تتداخل الحروف بالأرقام عربياً وإنجليزياً، ونضربُ على ذلك أمثلة موجزة، فمثلاً:2  تحل محل الهمزة (ء) ومثال ذلك: كلمة (سأل) تكتب على النحو التالي s2al، والرقم 3 يحل محل حرف العين (ع) ومثال ذلك: كلمة (ساعد) تكتب على النحو التالي sa3d، والرقم 5 يحل محل حرف الخاء (خ) ومثال ذلك كلمة (إخلاص) تكتب على النحو التالي e5las.

إننا ندقُّ أجراس الخطر القادم من فقداننا للهجاتنا – وقد فقدنا أجزاءً عظيمةً منها - فالشعوب التي تفقد لغتها تفقد هويتها، وذاتها، بل وتفقد ذاكرتها وتاريخها وثقافتها، ومجمل حضارتها، فتصبح مجرَّدةً من عناصر قوتها، ومناعتها، مما يسهل استلابها، وترضخ لتبعية الآخرين!