ثقافة الاختلاف وأثرها في ائتلاف القلوب!

د. عيد بن مبارك العريمي

eid62.aloraimi@gmail.com

الاختلاف سُنةٌ من سُنن الله في الحياة، وسرٌّ من أسرار الوجود العظمى، وهو بجميع درجاته، بدءًا من التناقض والتضاد، إلى التشابه والتماثل، ضرورةٌ حياتيَّةٌ لا يمكن أن يُتصوَّر وجود بدونها، ولقد ورد في ثقافتنا الاسلامية أمثلة لشيء من ملامح ثقافة الاختلاف، التي نحن أحوج ما يكون لها في عصرنا الحالي، أفرادا ودولا، فقد حدث بعض الاختلاف في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، حين اختلفت اجتهاداتهم في بعض المسائل، لقد اختلف أبوبكر وعمر، وهما أفضل من طلعت الشمس عليهم وغربت من البشر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، في شأن أسرى غزوة بدر من المشركين، فقال أبوبكر بالرفق بهم وأخذ الفداء منهم وإطلاقهم، وقال عمر على النقيض من ذلك تماما بقتلهم! فقال الرسول صلى عليه وسلم لأبي بكر: مثلك كمثل نبي الله إبراهيم، عندما قال: "فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". وقال لعمر: مثلك كمثل نوح عندما قال: "رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا".

يُستفاد من موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الاختلاف النوعي، الذي أقره ولم ينكره، أنه إقرار بوجود اختلاف بين الناس، بسبب النشأة والتكوين والطبع، وتفاوت الأفهام، وتباين المدارك، وتمايز المَلكات والقدرات العقلية، مع وجود الصدق والإخلاص مع أطراف الاختلاف، وما دام الناس يختلفون في كل ذلك، فإنهم لا شك يختلفون في آرائهم، ورؤاهم، واجتهاداتهم، ونظرتهم إلى الأمور، ومعالجتهم للقضايا، وتقديرهم للأشياء. لقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاختلاف النوعي في إطاره، ليعلّم الأمة أن الاختلاف فيما يسوغ فيه النظر والاجتهاد لا يوجب الفرقة، ولا يُزيل الإلفة، ولا يسبب الوحشة، وليس بالضرورة أن يؤدي إلى الخصومة والنزاع والقطيعة.

لقد اختلف سلفنا الصالح من الجيل الأول -رضوان الله عليهم- لكنَّ اختلافهم في الرأي والاجتهاد لم يكن سببا لافتراقهم.. إنهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لأن ائتلاف القلوب كان عندهم أكبر من أن ينال منه شيء من الاختلاف والاختصام والنزاع والفرقة، لقد اختلفوا ولكن ائتلفت قلوبهم، ولم يقدح اختلافهم ائتلاف قلوبهم.. وخلاصة الأمر أنهم اختلفوا وهم مُؤتلفون.

ومن هنا، يُمكن القول إنَّ الخطورة ليست في الاختلاف، بل الخطورة -كل الخطورة- أن يتجه الاختلاف نحو التسبب في افتراق القلوب، والتمزق، والحقد والكراهية، والقطيعة، وإذا كان اختلاف الرؤى والآراء شيء فطري، وتحول هذا الاختلاف في بعض الأحيان إلى خصومة أمر وارد، فإن العاقل هو من لا يجعل الخلاف يغلق عليه أبواب فكره، ويكدر عليه صفاء رشده، ويحجب عنه آفاق عقله، ويجرده من شرف الخصومة؛ فالشريف في الخصومة من يتعامل مع خصمه بروح الإنصاف وليس الفجور عند الاختلاف، فلا يسعى لتصيُّد أخطائه، أو البحث عن زلاته، أو نشر مثالبه، أو تضخيم هفواته، أو تشويه صورته، ومن جهة أخرى لا يتناسى محاسنه، ولا يعرض عن فضائله، ولا يغض الطرف عن إنجازاته، ولا يدير الظهر للروابط والأواصر التاريخية بينه وبينه، فيسعى لإضعافه أو تشويه سمعته أو إيذائه أو القضاء عليه!

... إنَّ من اللافت أن معظم اختلافاتنا في العصور المتأخرة -سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي- غالبا ما تسبِّب تمزقَ العلاقات وتؤدي للشقاق والافتراق والقطيعة؛ لأن مبناها على التعصب للرأي، والعمل لفرضه على الآخرين، وعدم احترام وجهات نظرهم -إلا من رحم ربك- فالكل يريد إثبات أن الحق والصواب المطلق معه دائما.

والتعصُّب في الرأي أن تتغلَّب فكرة ما على عقل إنسان، يجعلها تسيطر على تفكيره، فتدرأ مناقضاتها، وتمنع مضاداتها، وترفض ما عداها، والبعض تصل به الحال إلى أن تُسيطر عليه، وتجتاز الإدراك إلى الأعصاب، فيثور كلما عرض عليه غيرها، ويغلق عليه كلما رُوجِع فيها، فلا يقبل حتى النظر فيما دونها، لا يقلب النظر في دليلها، ولا يقبل نظرًا في دليلٍ لغيرها، ولا يتمعَّن في رأي مخالف، وتأخذه رُوح عدائية تصل به إلى درجة الانفجار على خَصمه، ومَنشأ هذا التعصب، ودافعه تهيُّج في الأعصاب! وكل ذلك إنْ دل فإنما يدل على انعدام ثقافة الاختلاف، المتمثلة في الفشل في مقابلة الحجة بالحجة، والعجز في إثبات المزاعم بالدليل والبرهان، كما يدل على انعدام أخلاق الخصومة وآداب الحوار عند الاختلاف، الحوار الذي يحكم الأمر فيه الموضوعية فلا يتحول إلى مهاترات! واتهامات! وعقوبات! دون دليل واضح، فتنقلب الأمور رأسا على عقب.

ولا شك أن اتباع المنهج الحكيم المتبصر عند الاختلاف، يمنع أطراف الخلاف -أفرادا أو جماعات- من الوقوع في المزالق الخطرة، ويبعدهم عن الشقاق والبغضاء، والطعن والتجريح؛ لأنَّ الطعن والتجريح هي وسائل العاجز وحده، أما القوي الواثق المثقف بـ"ثقافة الاختلاف"، والمتخلق بـ"أخلاق الخصومة"، والمتأدب بـ"آداب الحوار"، لا يعجز عن تقديم الحجج والبراهين المنطقية التي يستطيع الدفاع بها عن رأيه عند الاختلاف والخصومة والنزاع، وإثبات مزاعمه فيها.

حريٌّ بمن يحمل ذرة من دين، أو نقيرًا من عقل، أو قطميرًا من خُلق، أن يستمسك بعروة الإنصاف عند الاختلاف، وأن يتجرد من دواعي الهوى، وبواعث الحقد، وأن يزن الأمور بميزان الشرع و القانون، فلا يندفع في تضخيم أمر يسير، ولا يجتهد في أن يمنع إحدى الصغائر عبر ارتكاب سلسلة من الكبائر! كقلب المفاهيم، ورفض الحقائق، وتشويهها، والتشكيك فيها، ومناقضة الواقع، والتحريض، والتآمر، والتأزيم، والصراع، والنزعة إلى العداء، والحقد والكراهية والانتقام، وضرب القيم، وإشاعة التكاذب، وخلط الأمور على الناس فلا يكون أمامهم حينها سوى إما ترديد المشاع كما هو حتى ولو لم تصدقه أو تستوعبه!! أو الانكفاء والانزواء في دوامات خيبات الأمل، والإحباط، والحيرة، والضياع، والصدمة!

المشكلة الكبرى في هذا أنَّ تداعيات كل اختلاف ونزاع وأزمة خلال الفترة الماضية، تحمل مخاطر ومخاوف وهواجس أكثر ممّا هي انطلاقة واضحة نحو مستقبل أفضل، ولعل أسوأ ما في الواقع الراهن أنّه لا يحمل في سياق اختلافاته وأزماته المتراكمة ما هو مبعث أمل، ولو بعد حين، وخطورة هذا الأمر أنه يفرز الناس بين تيارين: تيار اليأس والإحباط، وفقدان الثقة بنتيجة أي فكر أو أي عمل أو أي جهد يُبذل -سواء من الأفراد أو الحكومات- وتيار آخر انفعالي مندفع متحمس دون وعي أو بصيرة، يحاول التغيير لكنه فاقد للبوصلة والمرجعية الصحيحة التي تُرشده لبناء حياةٍ أفضل.. فكان ضحية لأفكار وجماعات وجهات خارجية مشبوهة تسعى لتدمير الدول وتخريبها!

... إنَّ الأمة التى وصفها الله بأنها خير أمة أخرجت للناس في تاريخ الإنسانية، تمرُّ بأصعب مرحلة منذ أن بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلى يومنا هذا، نتيجة لتحديات ومخاطر داخلية وخارجية، يأتي في مقدمة التحديات والمخاطر الداخلية ظاهرة الفرقة والشقاق والاختلاف المذموم، بين أصحاب الدين الواحد والأمة الواحدة، وبسبب غياب ثقافة الاختلاف، وآداب الحوار، وأخلاق الخصومة، وارتفاع وتيرة التخوين والاتهام والطعن في الآخر، ومصادرة آرائه وفرض الوصاية والهيمنة والتسلط عليه، كل هذا عمل على خلق حالة من الضجيج والفوضي في الأمة والتي استحال معها -في كثير من الأحيان- التوصل إلي حلول للأزمات والاختلافات والنزاعات التي تواجهها، ولكي تتغلب الأمة علي كل هذا كان لابد من العناية بجملة من الالتزامات، يأتي في مقدمتها الالتزام بأخوة الدين، والالتزام بوحدة الأمة، فضلا عن الالتزام بنشر ثقافة الاختلاف، وآداب الحوار، وأخلاق الخصومة، والتفاهم، والتسامح، وقبول الآخر، والتعايش السلمي بين الناس؛ لأن من شأن ذلك أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات والنزاعات والاختلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تحاصر جزءاً كبيراً من البشر في عالم اليوم.

 

** دكتوراة في الدراسات الإسلامية

تعليق عبر الفيس بوك