إستراتيجية الخروج!!

حاتم الطائي

قرارات "اللجنة العليا" لاقت إشادات مُجتمعية واسعة وساهمت في التخفيف من التداعيات

الجائحة أثبتت أهمية تعزيز الشراكة لتقوية القطاع الصحي وتطويره

لا بديل عن تعزيز التنويع الاقتصادي بأسرع وتيرة ممكنة.. والتكنولوجيا بالمقدمة

كثيرةٌ هي الدروس والعِبر التي يُمكن أن نستخلصها من أزمة جائحة كورونا، التي أثَّرت بشكل مُباشر على جميع دول العالم، وتسببت في أزمات أخرى من الناحية الصحية والاجتماعية، ونحنُ في وطننا الغالي ورغم تعرضنا لهذه الجائحة، إلا أننا استطعنا الحد من أضرارها، والتخفيف من تداعياتها، والفضل في ذلك يعود للتكاتف المُجتمعي مع قرارات اللجنة العُليا المُكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا، وهي القرارات التي لاقت إشادة مُجتمعية واسعة، وحققت نتائج إيجابية، ساهمت في الحد من الإصابات بهذا الفيروس.

وعلى مدى ما يزيد عن 5 أشهر، والعالم أجمع غير قادر على تبصُّر طريقه نحو الخروج من الأزمة، وفق آليات عمل منسقة ومدروسة سلفًا، بل لن نبالغ إذا قُلنا إنَّ أغلب الدول تعاملت مع الأزمة كرد فعل للصدمة الوبائية، دون رؤية منهجية سليمة تضع الأمور في نصابها الصحيح، ولا أدلَّ على ذلك من التَّخبط الذي عاشته دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا ثم بريطانيا ثم الولايات المُتَّحدة، وأخيراً البرازيل، وربما دول أخرى في الطريق لا تزال في حالة من التَّيه والتشتت الإداري لهذه الأزمة. الواقع يُخبرنا دائماً بما كنَّا نجهله أو بالأحرى ما لم نكن نعرفه عن تحديات الوضع الراهن، ولكي نقف على أرضية صلبة نستطيع من خلالها رؤية التَّحديات ومن ثم استشراف الحلول وطرحها للنِّقاش العام، علينا أن نُدرك جيدًا بُعدين أساسيين؛ الأول صحي، والثاني اقتصادي؛ إذ نُواجه أزمة هي الأولى من نوعها في عصر الثورة الصناعية الرابعة، ووصفي لهذا العصر بذلك، إنِّما يهدف إلى إبراز المُفارقة الصارخة بين ما توصلنا إليه من علوم ومعارف، وما نُواجهه من خطر مُحدق بالبشرية صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا بل وسياسياً في ظل طغيان تفشي فيروس كورونا المستجد "كوفيد- 19"، وما خلَّفه من ندوب عميقة الأثر في البنيان العالمي المُعاصر، رغم ما يملكه من قدرات مُتطورة، وصلت إلى حد الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، بينما عجز عن وضع خطط إستراتيجية تضمن الخروج الآمن من مثل تلك الأزمات.

والبُعد الأساسي الأول يتمثل في طبيعة الأزمة الصحية، ففيروس كورونا يختلف كلياً عن أي فيروس أو مرض آخر، حتى مرض الإيدز، أو داء السرطان، أو غيره من الأمراض الفتاكة بالجنس البشري، فنحنُ أمام فيروس غامض، غير قادرين على تحديد طبيعة تحركاته، أو آثاره الفعلية عندما يُهاجم جسم المريض، فضلاً عن عدم التوصل إلى علاج ناجع أو لقاح يكون خلاصاً من براثن هذا الفيروس.

الأزمة الصحية برهنت لنا أنَّ جميع دول العالم، بما فيها "المتقدم" منها، لا تملك أنظمة صحية قادرة على التَّعامل مع وباء في وقت واحد، وأثبتت الأزمة كذلك أنَّ معدلات الإنفاق على القطاع الصحي لا تُعادل سوى جزء ضئيل من حجم الإنفاق العسكري حول العالم، فبدلاً من أن تشتري الحكومات الأسرّة وأجهزة التنفس الصناعي أو تخصص ميزانيات ضخمة للبحث العلمي وتطوير المُختبرات والمشافي، وغيرها من الإجراءات التي لو كانت قد اتُخِذت لتجنبنا الكثير من الويلات التي نتعرض لها الآن، لكن في المُقابل أسرفت الحكومات في الإنفاق ببذخ غير عادي على معدات التسليح ومضاعفة العتاد العسكري، وهناك من أنفق على الأسلحة النووية وأغفل الأسلحة الطبية، ودول أخرى طورت صناعات عسكرية ووضعت المشاريع البحثية في أدراج الجهات الإدارية البيروقراطية. وكانت النتيجة أننا لم نعُد قادرين على محاربة فيروس لا مرئي كشَّر عن أنيابه للبشرية جمعاء، ولم يترك بلدًا، فقيرًا كان أو غنيًا، متطورًا أو متخلفًا، في أوروبا أو في أفريقيا، إلا ونخر عظم مواطنيه، ونهش من أرواحهم، وروّع الآمنين، وأجبر الناس على المكوث في المنازل لشهور!

تلك التطورات غير المسبوقة أشبه بحرب عالمية ثالثة، لكنها خالية من الدبابات والجيوش والطائرات النَّفاثة والبوارج البحرية التي تطلق مدافعها فتدك أعتى الحصون، حرب عالمية مع عدو لا نراه، ولم نضعه في الحسبان ذات يوم.

أسفر عن تلك التطورات بجانب الأزمة الصحية، أزمة اقتصادية- وهي البعد الأساسي الثاني- كشفت عن مدى هشاشة المنظومة العالمية أمام الجائحة، بدءًا من سلاسل التوريد ومرورا بالطيران والسياحة، وحتى القطاعات الإنتاجية، الصناعية منها والغذائية، رغم أنَّ البعض القليل استفاد من الأزمة ووظفها لصالحه. غير أنَّ المحصلة الكبرى تشير إلى انهيار اقتصادي عالمي، فانهيار منظومة الخدمات في الدول وما تلا ذلك من هبوط حاد في أسعار النفط، ووصولها لمستويات دون الصفر لأول مرة في تاريخ تجارة النفط، وربما في تاريخ التجارة بشكل عام، إذ لم يشهد العالم بيع سلعة لمشترٍ مُقابل أن يدفع البائع للمشتري أموالا فوق السلعة المباعة، هذا علاوة على التعثر المالي للشركات بمختلف أحجامها والمؤسسات المصرفية، وأيضًا عدم استدامة مهن وقطاعات عمل في ظل هذه الجائحة. ولذا انهار الاقتصاد العالمي كما تتساقط أحجار الدومينو، واحدة تلو الأخرى.

وانطلاقاً من هذين البُعدين، يمكن القول إنَّ التفكير الاستراتيجي غاب عن مُختلف دول العالم، ورغم أننا ربما نجد دولة هنا أو هناك نجحت في جانب من الأزمة، لكن إلى الآن الجميع خسر المعركة، حتى تلك الدول التي اعتبرها البعض "نموذجا" في التعامل مع الأزمة، تضررت بشدة من الانهيار الاقتصادي العالمي.

ولذا نرى أنَّه على المستوى الوطني والعالمي، من المُفيد للغاية أن نستكشف الدروس والعبر التي علمتنا إياها هذه الأزمة، وأولها ضرورة الاهتمام بالقطاع الصحي، من حيث جودة مُخرجاته، ومميزات العمل فيه، واستمرار التدريب والتأهيل بصفة دائمة، وزيادة مخصصات قطاع الصحة في الميزانية العامة للدولة، وإشراك القطاع الخاص في تطوير المنظومة الصحية، على أسس تضمن رفع الكفاءة الصحية، وليس فقط تحقيق أرباح للمُؤسسات الصحية الخاصة. والحديث عن الشراكة بين القطاعين لتطوير القطاع الصحي، يجب أن يكون عنوان المرحلة، فمسؤولية الحكومات الآن تتمركز في التخطيط والرقابة وفرض الضوابط، لكن القطاع الخاص يقع على عاتقه المسؤولية الأكبر في تطوير الأداء وتعزيز جودته، وعلى القطاع الطبي الخاص أن يستفيد من الزيادة السكانية في بلادنا، وأيضًا من برنامج التأمين الصحي الإلزامي الجديد، ليكون نواة تأسيسية لقطاع طبي خاص متين وقوي، وليس مجرد عيادات للأمراض والعمليات البسيطة، فيما لا يزال القطاع الحكومي يتحمل العبء الأكبر من الرعاية الصحية.

أما فيما يتعلق بالأزمة الراهنة، فالتحرك السليم يتمثل في انتهاج 4 مسارات متكاملة ومتوازية: التوسع في إجراء الفحوصات، والتقصي الوبائي، والعزل الصحي للمصابين أو المخالطين، فضلاً عن تطبيق التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات والتعقيم المُستمر وغيرها من الإجراءات الاحترازية.

في حين أنَّ تداعيات الأزمة على الاقتصاد، تدفعنا للتعجيل في جهود التنويع الاقتصادي، وتركيز الاهتمام على القطاعات المرتبطة بالتكنولوجيا، وضخ المزيد من الاستثمارات في هذا الجانب. ولا شك أنَّ التغييرات الهيكلية الأخيرة في إدارة الاستثمارات الوطنية، بإنشاء جهاز الاستثمار العُماني، تبشر بأننا مُقبلون على مرحلة جديدة من الاستثمار، تكون الأولوية فيها للداخل، خاصة في القطاعات المنضوية تحت مظلة الثورة الصناعية الرابعة.

ويبقى القول.. إنَّ إستراتيجية الخروج من الأزمة، تبدأ بإعادة ترتيب الأولويات، والدفع بمزيدٍ من الجهود نحو بناء رؤية إستراتيجية للأزمات، وخاصة الجوائح، فتطورات فيروس كورونا تشير إلى أنه سيُلازم البشرية لفترات طويلة، ومن ثمَّ يتعين علينا توجيه بوصلتنا نحو آليات تضمن الوقاية المستقبلية أو على الأقل التخفيف من حدة الضرر.