السر الذهبي في "البقرة"

 

 

أحمد بن سالم الحوسني

قِصَّة سيدنا مُوسى -عليه الصلاة والسلام- مع قومه من أكثر القصص التي أوردها القرآن الكريم، واعتنى بها وبجملة من تفاصيلها، وقد تناولها من زوايا متعددة، ومشاهد متنوعة، وبأساليب مختلفة، إن تلكم المواقف تحمل في طياتها كثيراً من العبر والمعاني: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"، من بين تلك المواقف قصة البقرة التي ارتكزت عليها تسمية أكبر سورة في القرآن، بالرغم من قصر القصة؛ إيماء لعظم شأنها.

لقد أباحت لنا هذه القصة بسر ذهبي في غاية من الأهمية، وربما تكمن أهميته في تفعيله واعتباره لا في معرفته المجردة؛ إذ ربما يعرفه بعضنا، من هذه القصة أو من غيرها، بيد أن فائدته العظيمة تكمن في استحضاره أو اعتباره معيارا في المهمات والمشاريع.

لقد أمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، وقد كانت تجزيهم أية بقرة للامتثال، لكنهم قاموا بالبحث عن تفاصيل إضافية وأوصاف أكثر، من سن ولون وميزة؛ الأمر الذي أدى إلى زيادة في كلفة الوقت والثمن، الكلفة التي كادت أن تردهم عن الامتثال "فذبحوها وما كادوا يفعلون".

على هذا يُمكن القول: إنَّ إضافة تفاصيل أو أوصاف أو قيود أو شروط على أمر أو مشروع؛ يؤدي غالباً إلى زيادة كلفته. وبعبارة أخرى: تزداد كلفة المشاريع بوجود تفاصيل أو قيود إضافية. وهذا الأمر بالرغم من بداهته، إلا أنَّنا كثيرا ما نغفل عنه؛ لأننا لا نضعه معياراً لمشاريعنا ومهماتنا. وربما ننتبه إليه عند إرادة شراء جهاز أو منتج أو سيارة أو نحو ذلك؛ فالسيارة مثلا بالمواصفات الأساسية أقل قيمة من نفس نوعها من السيارات بمزايا ومواصفات إضافية.

ربما طلب منك ابنك أو أخوك الصغير هدية، إن اكتفيت بالطلب، وبحثت له عن هدية، فيمكن أن يقبل منك أي شيء، وكذا لو أحضرتها له ابتداء من غير طلب، أما إن سألته: ما الهدية التي تريد؟ فربما قال لك: سيارة. إن لم تستفصل زيادة قبل منك أي سيارة ولن ترضيه هدية غيرها، أما إن استفصلت أكثر، فربما قال: سيارة رياضية بجهاز تحكم عن بُعد بحجم كذا ولون كذا، وبذا تزداد الكلفة عليك، ولم يقبل منك هدية دون ما طلب.

من المهم أن نعي ونستحضر هذا القانون أو المعيار، سواء أردنا تطبيقه كاملا أو إعماله جزئيًّا، فاستحضاره وتفعيله يمنحنا مزيداً من التحكم، وقدرة أكبر على الاختيار.

انظر إلى هدف المهمة، وحاول أن لا تضيف تفاصيل لا داعي لها؛ لأنها تقيدك ولا تمنحك خيارا، وكثرة الإجراءات والقيود تبعدك عن المقصود. فمثلا تريد أن تقدم خدمة للناس: إن ركزت على هدف المهمة النهائي ربما أمكنك أن تقدمها بوسائل كثيرة وطرق يسيرة، أما إن بدأت قولبة الأمور، ووضعت شروطا وقيودا وتفاصيل؛ أصبحت مضيفا على نفسك أعباء أنت في غنى عنها، فتقول مثلا: لا بد أن يكون مكان تقديم الخدمة كذا، ومن يقدم الخدمة شرطه كذا، ولا بد أن يتوافر له كذا وكذا، ونوعية الأجهزة كذا، ونوعية الأثاث، وطريقة التجهيز... إلى أن تغرق في أمور كثيرة ربما أدت في النهاية لعدم إمكانك تقديم الخدمة إلا بشكل محدود ومكلف جدا.

كُنت في حوار ذات مرة مع شخص متخصص في أحد القطاعات، فقال: إن تكلفة الوحدة الواحدة قدرها يكلف كذا، وهذا مرهق، وعلى المنتفعين أن يسهموا في تحمل هذه الكلفة، فسألته: ولماذا الكلفة مرتفعة؟ قال: بسبب الاشتراطات الفنية الموضوعة؟ قلت: ولماذا هذه الاشتراطات الفنية؟ قال: لمعايير السلامة والمتانة والجودة؟ قلت: وهل المنتج يصل بكل هذه المعايير؟ قال: لا في الغالب، قلت: إذن لماذا توضع؟ قال: لأن سياسة المناقصات في هذا الجانب بهذه الكيفية؟! قلت: إذن لماذا تحمل المنتفع طريقتك ولبوسك وهو لا يهمه سوى أن يحصل على منفعته؟! ولقد تفاجأت بعدها بفترة حين علمت أن تكلفة نفس الوحدة بإحدى الدول الخليجية لا يصل إلى عشرة بالمائة من قيمة تكلفتها لدينا!

هنالك أمثلة كثيرة عامة وخاصة.

إنْ كنت تريد الذهاب لمدينة معينة، فالهدف الوصول إليها، ولكنك ربما تظن أنه لا يمكنك الوصول إلا من طريق معينة، فإن انطلقت ووجدت الطريق منقطعة لربما عزفت عن الغاية، أو بدأت في دفع مصاريف كبيرة من أجل اجتياز أو تمهيد تلك الطريق التي تظن أنه لا يمكن الوصول إلا عبرها. لقد كان القيد الذي وضعته في ذهنك: "الوصول لتلك المدينة يكون عبر طريق (أ)" سبباً في رفع الكلفة عليك.

إحدى الوحدات أرادت إضافة مرفق خاص ملحق بمكتب أحد كبار موظفيها، فبدأت تضع شروطا وقيودا على المشروع، منها أن يكون العمل خارج وقت الدوام الرسمي، وأن يتم الدخول للبناء من الجهة الخارجية، والمكتب ليس بالطابق الأرضي، وأن تكون الشركة المنفذة من الدرجة الممتازة، وهكذا إلى أن بلغت كلفة المشروع قدرًا كبيرا مضاعفا جدا لمساحة ربما لا تزيد على بضعة أمتار مربعة! فلو أنهم أعطوا الموظف المعني إجازة أو طلبوا منه الانتقال لمكتب آخر ريثما يتم المشروع وأسقطوا تلك القيود لقلت التكلفة بصورة كبيرة.

بعض الوحدات والمؤسسات من جهتها قد ترى أنَّ لديها اهتماما متزايدا بموضوع معين كالجودة أو التدريب أو الإعلام أو غير ذلك، وقد كان يؤدى من خلال قسم ملحق بإحدى الدوائر بفاعلية وبكلفة مناسبة، فتُبادر إلى رفع المستوى الإداري للقسم ليصبح دائرة، والدائرة بحاجة لمدير ونائب مدير وكادر من الموظفين، وأجهزة، وسيارة، ومكاتب وغير ذلك من تفاصيل إضافية مما يرفع الكلفة ويستنزف الميزانية المالية، وتتراجع بعدها الأنشطة المتعلقة بالموضوع المقصود أساساً؛ لأن الكلفة الإضافية لم يتم تقديرها واحتسابها جيدا.

هذا المعيار (زيادة الكلفة بزيادة التفاصيل) إنْ تمَّ الأخذ به والانتباه إليه جلب الكثير من الرخاء والتحكم في الإنفاق والمصروفات.

هُناك من يُضِيف قيمة اجتماعية على المواد فتزداد كلفتها عليه؛ فمثلا السيارة، تتمثل حاجتها الأساسية في كونها وسيلة نقل، ولكن عندما نرى أنها تعبر عن قيمة مالكها الاجتماعية والمالية؛ فإننا نضيف عبئاً آخر وتفصيلا إضافياً يجعل الشخص يدفع كلفة أكبر ليحظى بسيارة يرى أنها تعبر عنه أو تمثله اجتماعيا، والحال نفسه أو مماثل له في التنافس في العلامات التجارية للملابس والساعات والحقائب والأحذية والأجهزة الإلكترونية والهواتف...وغيرها. فكلما ابتعدنا عن المهمة الأساسية للغرض المادي، وأضفنا تفاصيل وميزات مادية أو معنوية ارتفعت التكلفة علينا.

أسرت قبيلة مزينة حسان بن ثابت -رضي الله عنه- في الجاهلية، وطلبوا فداء له تيساً أجم، فقال قوم حسان: والله لا نفتدي لساننا وشاعرنا بتيس، قال حسان: ويحكم، أتغبنون أنفسكم عيانا؟! إن القوم تيوس، فخذوا من القوم أخاكم وأعطوهم أخاهم.

إن بعضنا يغبن نفسه عيانا؛ لأنه لا يرضى لنفسه شيئا مناسبا محققا للغاية أو الهدف المطلوب، بل يريد شيئا مميزا أو ما يظن أنه كذلك، فيدفع أكثر، ويرهق كاهله، وقد يصل به الحال إلى الانغماس في الديون لتحقيق تلك الغاية.

... إنَّ بني إسرائيل غبنوا أنفسهم، وقالوا ابتداءً لما سمعوا الأمر بذبح البقرة: "أتتخذنا هزوا"؟! فإنهم ربما رأوا أن مقامهم ليس في ذبح بقرة عادية، أما بعد إضافة الميزات والتفاصيل تغيرت استجابتهم وقالوا: "الآن جئت بالحق"، فيا تُرى كم مرة كانت استجابتنا لمن نصحنا بجهاز أو ساعة أو هاتف مثلا يحقق المهمات الأساسية المرادة إن قلنا له: أتهزأ بنا، (تتمصخر أنت؟!)، فإن عرض الأغلى ثمنا والأكثر تميزا قلنا له: الآن أصبت، (توك جيت من دارك).

هل هذا يعني أن الإنسان لا يطلب الأفضل أو الأجود؟ سنجيب على ذلك في الجزء الثاني من السر بإذن الله.

تعليق عبر الفيس بوك