بسواعدنا ترتقي عُمان!

 

حمد بن سالم العلوي

إنَّ عُمان الماثلة أمام أعيننا بشموخها، لم تأتِ بها أحلام اليقظة، ولم يُعمِّرها عفاريت سليمان بن داود - عليه السلام - ولا علماؤه الكرام من البشر، كالذي أتاه بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام، إنما هذا تاريخٌ مدونٌ في بطون الكتب، وقد فاضت به مكتبات العالم، فلم يكن نتاج لمُهاترات في تويتر أو الفيسبوك، وإنما هو إرث سجله الآخرون قبل العُمانيين عن بطولات وصولات لرجال عُمان، وما تسميةُ منطقة غرب المحيط الهندي ببحر العرب، إحساناً أو فضلاً من دول العالم للأمة العربية، أو تسمية الجزء المُمتد من رأس الحد إلى رأس مسندم ببحر عُمان، لكون العُمانيين هم الوحيدون الذين يسكنون على ضفافه، إذن كل هذه الأحداث دونتها الصواري العُمانية، وذلك بمزمجرة مدافعها في صد العدوان، بعزائم الرجال وبشدة وقوة دحرت بهم بعيداً عن المنطقة.

وكذلك القلاع والحصون لم تُنشأ لإثبات ترفٍ في الحياة، وبطرٍ في رغد العيش، ولا جبروتٍ في استعباد الشعوب كما فعلت دولٌ أخرى، وإنما شيَّدتها السواعد العُمانية للحفاظ على منعتها وقوتها، وذلك أمام طغيان الدول الأخرى، التي لا تنزل بالعدل من تلقاء نفسها، ولكن تحترم الأقوياء لمنعتهم، والحصون والقلاع العُمانية عمَّت عُمان كلها، والخليج والجزيرة العربية، فلا تزال شاهدة على التاريخ العُماني العظيم، إلا ما أزيل عنوة لطمس تاريخ عُمان، وإظهار تاريخ مزور لا يُعتد به.

وإن من شواهد التاريخ المدون، ذلك اليوم الذي استنجدت فيه فاطمة الزهراء الجهضمية السقطرية العُمانية بالإمام الصلت بن مالك، بقولها: (قل للإمام الذي ترجى فضائله، ابن الـكرام وابـن السادة النجـب، وابن الجحاجحة الشم الذين هم، امست سقطرى من الإسلام مقفرة، بعـد الشرائع والفرقـان والكتـب) فلم يرسل جنوداً من المُرتزقة لنجدتها، وإنما أشاوس من قبائل عُمان الذين دفعوا العدوان عن الجزيرة، وأعادوا العدل والحق إليها، ولم يعبثوا فيها كما يعبث بها اليوم صبيان هذا الزمان، وذلك نتيجة لضعف الإيمان والدين، والإيمان بالعبودية للغريب، أو الموقف الآخر وهو استنجاد أهل البصرة بالإمام أحمد بن سعيد الذي أرسل أسطولاً حربياً بقيادة ابنه "حمد" لفك حصار الفرس عنها، وإعادة البصرة إلى أهلها، ولم يحتلها بحجة إعادة الشرعية، والتشتيت بأهلها التفريق بينهم، كما يفعل باليمن الذبيح اليوم.

إذن من كان له تاريخ كهذا التاريخ، لا ينبغي له اليوم أن يجلب خليطاً من جنسيات العالم، لا ليدافعوا عنه من اعتداء غادر، ولكن ليُوفرا له لقمة العيش من أرضه، وحرث بلده المُعطي، أو ليزجي له تجارة هو في الأصل صاحبها وسيِّدها، إذن؛ علينا أن نخرج من خديعة النفس والهوى، وأن ننزل إلى ساحة الجد والعمل، فأرضنا تنادينا لإدارتها وبنائها واستثمارها، وبحرنا الذي ينضح بالخيرات في جوارنا، يقول لنا أين أنتم أهل عُمان؟! فقد تخالطت اللغات على مسمعي، وما عدت أفقه منها شيئاً، والتجارة التي تنادي بأعلى صوتها .. إنَّ الخير ها هنا، والصناعة التي خلقنا فيها ولها، ونحن نصنعها وتصنعنا، تدعونا لإنقاذها من أيدي العابثين بها، وما ضغطت "كورونا" على أضلعنا، إلا صرخة وصحوة توقظنا لنقوم من سباتنا، ونتلمس طرقنا الكثيرة إلى الحياة، والعزة والكرامة، والسيادة والمجد في رفعة عُمان الخير.

إنَّ هذه المقدمة كانت ضرورية لإيقاظ النفوس من غفوتها، ولكن أرجو ألا ينظر إليها على أنَّها دعوة إلى الإنغلاق على الذات، والاستغناء عن الآخرين، فنحن لا ننكر عليهم جهدهم في تسريع قيام النَّهضة، ولكن ليس جديراً بنا أن نشكو الحاجة وقلة العمل، ونحن بإرادتنا نعطي الظهر للخيرات الموروثة والمُتجددة، وهذا التذكير للتحفيز ودعوة إلى العمل وتقدير الذات، والخروج من ساحة الخمول والكسل، واللهث خلف الوظائف السهلة، بحجة أننا عُمانيون ونستحق قبض المال بلا جهد أو تعب، وإنَّ لنا الحق أن تكون لنا سلطة "الآمر الناهي" وحسب، فكراسي السلطة تحتاج إلى عمل، ولا تأتي إلا نتيجة للجهد والعرق، والخبرة والمعرفة، وهي تأتي للجدير بها بدون طلب منه، وإنما تكليف بمسؤولية وتحمُّل أمانة، ومُقابل ذلك يكون منه العطاء دون كلل وملل، وبشروط على رأسها الإخلاص والتفاني والإتقان.

لقد تدارك القوم في السنوات الأخيرة بعضهم بعضاً في ساحة التقاعد، وهذه المجاميع من النَّاس بلغت اليوم نسبة كبيرة في المجتمع، وهؤلاء المتقاعدون خرجوا من الوظيفة، لأنَّ أوان التقاعد قد حان اليوم، أو أنه سيحين لاحقاً، لكن لا يُمكن أن تلغى من المتقاعدين خبرتهم ومعارفهم المكتسبة مع قرار التقاعد، إذن لا يجب أن يعطَّل عطاؤهم بجرة قلم، وإنما يجب أن يستفاد منهم في الكثير من مواقع العمل، وذلك كل بحسب خبراته ومقدرته، وهم لا يشكلون منافسة لجيل الشباب، خاصة أولئك الذين يستميتون في طلب الوظيفة الحكومية، ولا ينبغي النظر إليهم على أنهم حجر عثرة للباحثين عن فرصة عمل.

لكن ستجد الإنسان المتقاعد أفضل مليون مرة من أولئك البغمان، بل لاتجد وجهاً للمقارنة بين المواطن الغيور على وطنه، والغريب الذي دفع مالاً حتى يجد وظيفة في الخارج، وهم قوم يدفع بهم كجلب القطيع من بلدانهم للعمل في الخارج، فإذا ذهبت إلى مكتب جلب الأيدي العاملة، وطلبت عاملاً كهربائياً مثلاً، سيُقال لك إنِّه بإمكانه أن يُسيِّر لك صاروخاً إلى الفضاء، ولكن إذا حضر إلى هنا، وأحضرت له مجموعة من الأسلاك الملونة، وغفلت عنه للحظة، ستجده قد رمى بها في زريبة الحيوان، ظناً منه أنها علف للماشية، وهو يفعل ذلك لأنه لم يرها في حياته، إذن فالخبرة مجرد زعم كاذب.

وقد أخبرني أحد الإخوة أنَّه أتى بمزارع ذات مرة، وكان وقت طلع النخيل، فأرشده إلى فحل النخيل، وعلمه أن يأخذ النبات منه، وينبِّت به بقية النخيل، ولكنه فعل العكس، فغضب منه وأخذه إلى زريبة الغنم، فأتى له بمقص، فقال له قص شعر أحد الخرفان بعدما عمل أمامه الشيء الذي يُريده أن يفعله، وعندما عاد وجده قد فعل ما قال له، ولكن أضاف عليه بالموس بعدما قص الشعر، إذن الخبراء الذين يُؤتى بهم للعمل، ومعظمهم لا يفقه شيئاً مما زعم به، وحتى وأنت واقف عليه فلا يعمل بالطريقة الصحيحة، وتم عاد أركض خلفه كمن يزرب عجل، تدفعه يميناً فيأخذك يساراً، وإذا تعلَّم صنعة ما أخذ يُفكِّر في الهروب، وذلك لكي يعمل في الخفاء، لأنَّ عقيدته تكمن في جمع المال بأيِّ شكلٍ وعلى أي نحو.

ونلتقي في مقال قادم لنوضح أهمية الاستفادة من المتقاعدين في بعض الأعمال التي تناسب تقاعدهم .. والله ولي التوفيق.