"أم هارون".. نقلت الهم الخليجي من الداخل للخارج

سلطان بن سليمان العبري

Sultan12444@gmail.com

ظلَّت الدراما الخليجية مُنطوية على نفسها تجاه قضايا كبيرة ومفصلية بالوطن العربي، فلم يظهر شمال إفريقيا ولا حتى الشرق العربي في أعمالها المتنوعة.

وفي ظل هكذا "تقوقع"، لم تكن القضية الفلسطينية -وهي بؤرة اهتمام العالم- لتظهر في الدراما الخليجية إلا في مشاهد بسيطة، يظهر فيها المذياع "الراديو" وهو يحكي عمَّا يشير إلى حقبة زمنية أكثر مما يشير إلى صراع بين عالميْن: عربي وأجنبي. لهذا؛ جاء مسلسل "أم هارون" الذي أدَّت فيه نجمتنا الكبيرة فخرية خميس دوراً مهمًّا، ليُشكل صدمة كبيرة لعرب فلسطين خصوصاً ولأهل الشام بشكل عام؛ فشنوا هجوما عنيفا على العمل واعتبره البعض "تطبيعا" مع كيان محتل، والغالب أن كثيرا منهم كان "انطباعيًّا" و"مزاجيًّا"؛ بحيث ركب الموجة العامة ولم يشاهد العمل.

لكنَّ المُدهش أنَّ ورود ذكر اليهود في الأعمال الدرامية العربية كان على وجهيْن: وجه يُظهر بطولة أسطورية وقدرة البطش العربي وضعف اليهودي المحتل؛ لذلك وجدت هذه الأعمال المديح والثناء، وتركزت الأعمال بنسبة 90% في بلاد الشام؛ كونهم الأكثر تماسا مع القضية. أما الباقي، فلم يُشكل استياء ولا حتى مجرد نقاش مقارنة بالرفض العام الذي قوبل به مسلسل "أم هارون"، الذي رفضت الكويت أن يُمثَّل على أرضها.

ويُمكن أخذ المسلسل المصري "حارة اليهود" الذي عُرِض عام 2015م كعينة على ما نذهب إليه؛ فالعمل ناقش قصة حب بين "ليلى" الفتاة اليهودية -لعبت دورها منة شلبي- والتي تقع في غرام ابن جيرانها "علي" -ولعب دوره الممثل الأردني "أياد نصار"- وهو من أصول فلسطينية، وفي العمل ظهرتْ الحارة العربية في فترة احتلال فلسطين عام 1948م، وكانت تضمُّ المسلم والمسيحي، والمسلم خصوصاً في العواصم الكبرى؛ مثل: دمشق والقاهرة وبغداد.

لكن تعرَّض المسلسل الخليجي لموجة نقد مع أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش كتب قصيدة غناها اللبناني مرسيل خليفة، وحفظها العرب، عن تجربة حب بين فلسطيني وإسرائيلية "بين ريتا وعيوني بندقية"، وتحدث القاص الفلسطيني غسان كنفاني في قصة "عائد إلى حيفا" -التي تحولت إلى فيلم شهير- عن طفلين لعائلة تُلملم أغراضها بسرعة فتنسى أحدهما -وهي تهم بالرحيل للبنان- في بيتهم بمدينة يافا، فتربِّيه عائلة يهودية وحين يكبُر كلاهما يتعيَّن عليهما الانتساب للجيش "العربي والإسرائيلي"؛ وبالتالي المواجهة وقتل أحدهما الآخر. وهذه القصة المتخيَّلة واردة الحدوث بنسب كبيرة، بدليل أنَّ الوثائقيات الكثيرة التي تتحدث عن الترحيل القسري والمخيمات تذكُر أشياء من هذا القبيل، وحتى إنْ لم يكن ليحدث ذلك واقعيًّا فقد كان مُحتملا ومُتخيلا في عمل درامي.

 

"أم هارون".. ما الجديد؟

اجتهدَ العمل الكويتي-الإماراتي، الذي تدور أحداثه أواخر الأربعينات في "فريج" بسيط يضم المسلم والمسيحي واليهودي، ويحكي قصة اليهودية أم هارون، التي تزوجت مسلماً فأسلمت معه، ليظهر الوجه السيئ لليهودي، فوجدنا أن "عيزرا" -يلعب دوره نواف نجم- قد خان الكويت ودعم إسرائيل ولما أراد العيش فيها، لم يحتمل نداء قلبه، فاستنكر التشريد الفلسطيني، وحين عاد للكويت تم سجنه وترحيله بحجة أنه صهيوني.

وأنَّ عمه  والد زوجته الحاخام داوود -يلعب دوره السعودي عبدالمحسن النمر- مكروه في "الفريج" يحب المال، وقد خلط الخمر بالحليب، ومُرَابي، ولهذا تعرَّض للضرب والتنمر، ومكروه أيضا في بيته، وحين ثبت تعاونه مع الصهاينة، تركته حتى زوجته وأسلمت، فيما طرده أهل الحي والكويت من البلاد نهائيا.

ابنة الحاخام "راحيل" أحبت محمد ابن الملا المسلم، وتعرضت للقتل من الحاخام داوود 3 مرات، وأصرَّت على حبها، وبلغت قصة الحب أوجها حين تبرعت له بدمها فتزوجا، لكن حقارة الأب الحاخام جعلته يبتكر طريقة أدت لتفريقها عن زوجها الذي خُيِّر بينها وبين أمه، فاختار الأم.

وفيما حاول القس صمويل "محمد غباشي" إدخال "أهل الفريج" للديانة المسيحية يفشل في ذلك، ويحدث تصادم بينه وبين الحاخام داوود "بين ديانتين"، فيما لم يطرح موضوع الدخول للمسيحية بين المسلم كونه مرفوضا وتضييع وقت. كان "الملا" محمد يُواصل العداء لليهود كدين، والصهاينة، وقيام دولة إسرائيل كسياسة، بفطرته المتدينة.

 

قصة العمل

تحوَّلت أم هارون -حياة الفهد- من الديانة اليهودية للديانة الإسلامية، وعملها بالطب وروحها المتسامحة جعلاها محط قرب من الجميع؛ لأنها "القابلة" التي انولد على يديها أغلب أهل الفريج، يتضح بمرور الوقت أنها كانت تُخفي الكثير من الأسرار التي خلفها حريق في بيتها -إثر خلاف ديني- مما جعل شقيق زوجها -أحمد الجسمي- بو سعيد يستولي على أملاك ابنها "هارون - جبر" ويلعب دوره ممثل مبتدئ "فؤاد علي" يبدو وكأنه مخضرم لحُسن ما قدم، والذي يكبر حاملا اسم هارون ومُحِبًّا للمسيحية "مريم" فاطمة الصفي التي تُحبه، لكنه يتزوج علياء -إلهام علي- ابنه عمه كارها، فيما تتزوج مريم بو سعيد وتضطر للطلاق منه لتنقذه من السجن إثر انكشاف أمر ظلمه لعائلة أخيه واستيلائه على أموالهم، لكنها تعود للزواج من حبيب الأمس بنفسية محطمة.

وسط تشابك العلاقات هذه، يُمكننا تفهُّم سهولة تعايش ثلاثة أديان في مجتمع واحد بسيط، ظل كذلك حتى احتل الكيان الصهيوني فلسطين عام 1948م؛ فصار الموضوع مُعقداً؛ لأن أهل الكويت والخليج عامة كان لديهم وعي سياسي واجتماعي وديني، جعلهم يرفضون الاحتلال جُملة وتفصيلا، فزاد كُره أهل الحي للحاخام داود ولابنته رفقة وزوجها عيزرا، الذين بدأوا ينجذبون للصهيونية ويدعمونها بالمال والمناشير السياسية...إلخ، لكنَّ الكره تحول لرفض، ومن ثمَّ سجن وإبعاد لعيزرا عن المنطقة.

 

نقد خارجي

توقيت عرض المسلسل جاء بعد شُكوك وقَصْف مُتبادل بين مُحبِّي القضية الفلسطينية والمناصرين لها، وبين بعض الأصوات النَّشاز في السعودية والإمارات تحديداً في الجانب السياسي العلوي من البلدين وليس على مستوى الشعب، وإن دخل للشعب بعض الشكوك جراء ما يرجون له من انتهاكات مالية بالسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، وأفعال دحلان باليمن وغيره، واختلاسات جبريل الرجوب المزعومة للمال الرياضي وغيرهم؛ فوقع العمل فنيًّا ضحية لتجاذب هذه الأطراف وكَيْلِهما الاتهامات لبعضها البعض.

على أنَّ هناك حقبة تاريخية مهمة تواجد فيها اليهودي الفلسطيني داخل القدس، والعراقي في بغداد، والسوري في دمشق، واليمني في عدن وصنعاء، والمصري في القاهرة، ومدن كثيرة، ونفس الأمر ينطبق على تونس والمغرب للآن، لكن: هل يُمكن لعمل فني أن يكون مُؤشرا على حدث مستقبلي؟!

 

العمل فنيًّا

بدءاً من موسيقى تتر البداية التي ألفها الموسيقار الأردني الكبير طارق الناصر، دخولا في النص المميز والسيناريو الذي تخيله الأخوان محمد وعلي شمس، يأخذنا المخرج المصري محمد العدل -المتيَّم بالأجواء الليلية؛ مما جعل لكاميرا الكادر الفني و"أغلبهم من فلسطين والأردن وسوريا- إلى أجواء أكثر عذوبة خاصة تظهر تحديا كان مُعضلة كبرى في الأعمال العربية عامة؛ إذ لم تكن تتيح الكاميرات القديمة دقة التصوير الليلي، وهو ما استفاد منه كمخرج من كسر حدة الحر في قرية جرناس مكان تصوير العمل  بدبي، كل ذلك أسهم مع الملابس والأكسسوارات التي صُممت لمرحلة الأربعينيات والخمسينيات وحتى ملابس الجيش الإنجليزي، والحرص على جلب ممثلين شقر أو أجانب فعلا، أضفى كثيراً من المصداقية على العمل المكلف، والذي يُعرض بالتعاون مع شركتي الفهد وجرناس للإنتاج الفني، وواضح أن الإنفاق المالي عليه كان كبيرا.

أما على صعيد الأداء التمثيلي، فيُمكن وضع علامة تفوق الـ95% لكل ممثل وممثلة بالعمل، فيما يمكن إعطاء النجوم حياة الفهد والجسمي والجابر والصفي، بل والنجوم العشرة الكبار بالعمل، علامة تقارب الـ100%، ومن يدري فربما لو دخل المسلسل في جوائز عالمية كجائزة إيمي للأعمال التليفزيونية الأجنبية سيفوز بأغلبها، عندها سيقول المناهضون للمسلسل إنه فاز لأنه عمل صهيوني وضد القضية، مع أنَّ المتتبع بقلبه وروحه للعمل، سيجد أنه من أكثر الأعمال العربية التي انصفت القضية روحاً ونصًّا بدون شعارات وإنشاء وكلام مبتذل، كما حدث مع كثير من الأعمال الهابطة التي كانت تظهر الفلسطيني وكأنه "سوبرمان" بدون مبرر درامي مُقنع.

تعليق عبر الفيس بوك