الليلة المشؤومة

قصة قصيرة بقلم: طفول سالم

لم يستطع الفكاك من دوامة الألم والحزن الكثيف ومرارة الفقد؛ انه محاصر بنوبات البكاء والتيه، لم يستطع أن يلملم شتات مشاعره المتنافرة، كيف له أن يعيد صياغة نفسه ويعيد ترتيبها بعد تلك الليلة المشؤومة؟ كيف يعيد ذلك اليوم الذي هاج وماج فيه كل شيء عندما لم يستطع أن يلوي على شيء، وحيث فلت كل شيء، ولم يستطع أن يمسك زمام الأمور.

رجعت ذاكرة فاضل إلى تلك اللحظات الأولى التي رفع فيها عينيه إلى السماء محدقا بالغيوم المائلة إلى السواد، والبدر كان غارقا خلفها؛ معلنا عن ليلة ممطرة، أثناء تصادم غيمتان ومض البرق ليضيء ظلمات أزقة الحارة، فلمح بعض الأطفال يهرعون خائفين إلى منازلهم، لقد بدأت الساعات الأولى من الإعصار المنتظر، كانت هناك تحذيرات لأسبوعين عن قدوم إعصار، وها هو الآن يعلن عن قدومه الشرس.

لم يكن متوقعا أنه قد تغرق الشوارع في لحظات قليلة، رمت السماء بأسواطها على النافذة لتقتحم الغرف، وتفيض على الجدران لتتدفق إلى البيت؛ معلنة حربا شاملة. تذكر تلك اللحظات الأولى من قدوم الإعصار عندما عصفَ وبدأ بهدم جدران البيوت القديمة، تتناثر ذكريات الأجداد، وتُقتلع الأشجار المسنة والشابة من جذورها، وثار على الجسور ليبتلعها البحر الهائج، في ليلة ظلماء لا تبالي بالقلوب الضعيفة، تدحرجت الكتل الصخرية العملاقة من بعض الجبال الشاهقة وانهيارات الأتربة إلى الوديان العميقة لتجرفها السيول، وأما البيوت الخشبية فقد تطايرت، وجنحت مع الرياح.

كانت السيول تنهمر وتعصف بكل شيء، وعواء الرياح و أزيزها المخيف المتسلل بين الشقوق والنوافذ أحدث صرخات جزعة عمت الأرجاء.

IMG-20200529-WA0004.jpg
 

وسط تلك الضوضاء أفاق عندما سمع ارتطام قوي هز جدران غرفته، تذكر أنه تعثر في ظلام الغرفة المعتمة عندما هم بالإسراع ليرى ماذا حدث، أبصر تجمع أخواته وبين يدي إحداهن كشاف يدوي صغير يخترق العتمة، حدق بأخيه يصارع الباب ويغلقه لكن قوة الرياح دفعته لتسقطه أرضا، أسرع فاضل وأخواته ليصدوا الباب الذي أخذت الريح والمطر تتلاعبان به، فحال الإعصار لا يستقر،‏ فهو يثور على كل شيء؛ ‏وفجأة يغيب ليفرض هدوءا، ‏وكأن شيئا لم يكن.

وقف وسط ذهول مطبق وصرخ بأخيه: "أين ذهبت ماذا حصل؟" نظر اليه اخوه ضاحكا: "سيارتك تناثرت مقدمتها، فقد سقط عليها أحد الألواح المتطايرة من عند بناية الجيران، وأتوقع كل الألواح وصلت للجانب الآخر". امسكت أخته نفسها وهي تغمغم مذعورة: "يا الله لطفك يا الله لطفك".

لم يبدو عليه الخوف على سيارته أكثر من خوفه على حياة أخيه، أمسكه ونظر في عينيه: "الحمد لله على سلامتك؛ لكن لا تخرج في هذا الوقت العصيب، فالسيارة تعوض أما أنت كيف سأعوضك لو فقدتك لا قدر الله؟" أجهشت اخته بالبكاء عند سماعه: "انتم مجانين من يخرج في هذا الإعصار؛ أنظر البيت سيسقط علينا من قوته وانتم تتحدونه بالخروج".

تصيح الأم متذمرة: "غنمي غرقن اتركوني اذهب لأراهن" يمسكها أولادها، ويطمئنوها بأنهم قد مروا عليهن، وليس هناك ما يقلق؛ ما لا تعلمه الأم أن إحدى أغنامها غرقت في المياه التي اجتاحت الحظيرة؛ لكنه لم يود أن يزيد من قلقها، ودفعها للخروج في هذه العاصفة الهوجاء.

 تلك الرياح لا تعترف بشيء لا ترحم من يقتحم صفوها، وهي تهيج بلا مبالاة، وقد أحدثت الكثير من الخراب، حاول فاضل مع أحد إخوته أن يهرع لإنقاذ صديق بعد اتصال استغاثة قبل دقائق من غرق سيارته في السيول بسبب تهوره، كان المنظر مخيفا؛ شعرا وكأنهما في احدى السفن التي تتمايل بقوة الأمواج؛ لم يستطعا تحديد مكانه، رآه أخوه فصرخ به: هناك يا فاضل خلف الجسر؛ سأقترب منه قليلا لأرمي الحبل، وأنت صوب الضوء عليه قبل أن يبتعد عن ناظري".

هتف به فاضل قائلا: "لا تعبر على الجسر ‏وأنت لا تعلم ما خلف ‏الضفة الأخرى" لكن لم يسمعه أخاه عندما زمجر الرعد وومض البرق لتهيج موجة ثائرة ،ارتطمت بالجسر فشطرته جزئيين، سقط أخوه في بحر من الظلمات، وامواج المياه الهائجة سحبته برفقة صديقة لتكتم أنفاسهما إلى الأبد.

ارتجف فاضل ووقف صامتاً بمكانه لم يستطع رؤية شيء بعد تلك الضربة التي تلقاها الجسر، شعر بهدوء مخيف لم يسمع سوى نبضات قلبه ترتعد بين ضلوعه وصفير حاد بأذنيه كاد يفجرهما، حاول أن يتحرك لكن خارت قواه وسقط أرضا ليمتلئ فمه بالمياه، وتغرق عيناه في بحر الدموع المخلوط بوحل الأمطار، صرخ بأعلى صوته: "حامد حاااامد حااااااامد" ويشهق شهقةٍ كادت أن تنفصل لها عروقه، تعثر بكل ما يلمس قدماه، وقف فوق المنحدر، وحرك الضوء يمينا ويسارا دون فائدة، أخذ يبحث عن جواله لكن عند الحاجة تفقد من كان لا يفارقك، لم يجد جهازه أخذ يبحث عنه في المكان الذي سقط فيه حتى وجده، كان محظوظا بأن وضعه في كيس ليحافظ عليه من المياه، أخذت يداه ترتجفان وهو يضغط على الأزرار، تلاشت الأرقام التي يحفظها؛ تذكر رقم الطوارئ بعد عدة اتصالات عشوائية. وصل الإنقاذ بعد ساعات من اتصاله؛ بعد أن خفت حدة الاجواء قليلا، وجدوه جالسا فوق المنحدر صامتا، وعيناه متورمتان يكاد لا يبصر بهما.


EZWsR_BX0AEkxQ4.jpg
 

صرخ بالرجال لا أستطيع الرؤية أرجوكم.. أخي وصديقة جرفتهما السيول .. "فخارت قوته وسقط مغشيا عليه، حاول بعض الرجال البحث على طول الطريق، وبعضهم ربطوا أنفسهم بالحبال، ونزلوا من فوق المنحدر، كان السيل قويا والظلام حالكا، لم تستطع الهيليكوبتر الطيران بسبب عودة الاعصار بقوة مما أجبرهم على التوقف عن البحث، استمر الإعصار لثلاثة أيام بلياليهن، عاش فاضل وعائلته ألم الفقد لابنهم وصديقة اللذان لم يعثر على جثتيهما، ولا أثر لوجودهما على قيد الحياة؛ مما زاد الوضع مأساة.

 بعد أسبوعين من البحث عثر على جثة حامد بين صخور الشاطئ فاقدا لأحدى ذراعيه، بينما عثروا على جثة صديقة بعده بيومين مرمية بأحد الشواطئ مهشم الجمجمة.

تلك الحادثة ظلت في مخيلته، لم يستطع التخلص من تأثيرها، بعد أيام من هدوء الإعصار مخلفا دمار تاما في البنية التحتية للبلاد، سارعت بعض الشاحنات الحاملة لخزانات المياه يوزعون الماء على البيوت التي لم تصلها المياه بعد.

وصلت لحارة فاضل شاحنة كبيرة، كان واقفا منتظرا، لكنه استغرب تحولها عن بيته لتذهب إلى حارة جيرانهم، فظن أن السائق أخطأ العنوان، فهرع إلى صاحب الشاحنة، وعندما وصل وجد العديد من الناس واقفين متذمرين من صاحب الشاحنة الذي قال بأن ما في الشاحنة لصاحب هذا البيت وأشار إلى رجل قصير القامة، بدا الصلع يعري بعض أجزاء رأسه، عيناه جاحظتان، أخذ يحدق بالواقفين تكبرا وتجبرا وقال لسائق الشاحنة: "خذ فلوسك، واذهب املا الخزان".

كم هو سهل استفزاز القلوب دون التفكير بالعواقب التي قد تنجر عن ذلك، خاصة من أشخاص عاشوا معنى الفقد؛ ولا حل للفقد؛ ‏فقد نفقد لذة الحياة ‏حين نفقد روحاً.

صرخ فاضل بكل ما أوتي من قوة، وتوجه إليه راكضا فأمسكه من رقبته، وجره أمام الناس ليسقطه أرضا وينهره: "من أنت لتفرض سيطرتك علينا؟" تدخل بعض الواقفين وأبعدوا فاضل عنه، هتف بأعلى صوته: "يجب علينا القتال نعم القتال وهذا ما يريده" وأشار بأصبعه التي ترتجف من الغضب إلى وجه الرجل الذي كان يحاول أن يستعيد توازنه ليقف على قدميه، قال أحدهم وهو يشمر عن ساعديه: "ألا يدرك بأننا لن نسكت عنه". أمسكه أحدهم ليهديه، ورفع ذراعيه بينهم وقال: "هذا الجار اشترى ما أتت به الحكومة مجاناً، وهذا السائق امسك الثمن، وهذا النزاع لن يفيد في شيء سوى غل القلوب اتركوه ليهنأ بما اشتراه، الخير قادم، وما أتى علينا هذا الإعصار إلا لنتكاتف ونقف مع بعضنا البعض، ويظهر الرجال معادنهم، فلينصرف كل إلى بيته". انصرفوا جميعهم وعيونهم على الجار مشمئزين من فعلته.

انتفض فاضل عندما سقطت ورقة جافة على وجهه لتعيد إليه حسه واحساسه بالوقت؛ فقد استغرق ساعات وهو يتذكر ما حصل بأكبر إعصار شهدته البلاد. وقف ليعود أدراجه إلى البيت؛ ساحبا أقدامه متثاقلا؛ ليلمح أمه جالسة تتفقد الباب المكسور، طرق مسمعها صوت حامد عندما كان يتصارع مع الباب ومن شدة الرياح أسقطته أرضا، هاهنا أغرورقت عينيها بالدموع وأخذت تمسح الباب: أه يا من كنت واقفا تشد من أزره أين أنت اليوم؟ نظر إليها وقال:" ‏كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، اصبري واحتسبي الأمر كله لله".

جلست على بعض الأدراج وقالت: "حسبنا الله والنعم الوكيل.." وخنقتها العبرات فغمرت عيونها الدموع، فالذي مات فلذة كبدها؛ كيف ستتصبر على فراقه. أمسكها لتقف: "لا تبكي الذي مات لن يرجع ما يجوز عليه إلا الرحمة والدعاء، عرفنا الاعصار معادن الناس يا أمي هل تذكرين جارنا الذي اشترى المياه وترك جيرانه وهم في قمة الحاجة إلى الماء؟" ضحك رافعا رأسه: "كل ما أمر من عنده ألقى عليه تلك النظرة، أظنه يتذكر السقطة التي سقطها، و لو لم يمسكوني كنت أريته معنى التعاون". أرخت يديها من يده وقالت له: ‏"لا تتجاوز عقبات الدهر سوى بالصبر، ‏مهما حاولت فهناك قلوب ‏لا تعترف بما تقدمه ‏أو أنها لا تبالي بك، ‏أو قد يكون عطاؤك ‏لمن لا يستحق، ‏ولكن في النهاية، ‏أنت تعطي نفسك، ‏كل عطاء مردود لك، ‏إن كان خيراً أو سواه؛ حين تسعى للكمال، ‏أتقن سعيك".

تعليق عبر الفيس بوك