هل منخفض ظفار كان مفاجئا؟

 

د. عبدالله باحجاج

لأوَّل مرة، تطرح علامات استفهام اجتماعية كبيرة حول إداراتنا لملف المنخفض الجوي الذي تتعرَّض له محافظة ظفار منذ عدة أيام، ويتحفَّظ المجتمع على تبرير العنصر الفجائي للمنخفض الذي لا يستقيم مع المنطق العلمي، ولا مع تجربتنا المؤسسية المثالية في التعاطي مع الأنواء المناخية السابقة؛ فالقول إنَّ هذا المنخفض كان مُفاجئا يتحفظ عليه الكل، وحتى لما بدأت بوادر المنخفض وكثرة تداعياته، فلم نتحرَّك في وقته، علمًا بأنَّنا كلنا نسمع عن أنبائه من الخارج منذ 23 مايو الماضي من مصادر خارجية.

لذلك، فمن حق المجتمع أن يغضب بسبب مُباغته بكميات أمطار لا تشير إلى أنها منخفض، بل أكبر من ذلك؛ لأنه كان يعتمد على المصادر الداخلية، ويثق فيها أكثر من الخارجية، وتاريخية احترافها وصدقيتها وتدخلها في الأوقات المناسبة يُزكي اعتماده عليها، فماذا جرى؟ الحديث هنا ليس عن قطاع محدد دون غيره، بل هناك عِدَّة قطاعات معنيَّة بالعتاب الاجتماعي، ومهما يكن، فلن نتوقف عندها، وإنما سننطلق منها إلى فتح ملف علاقة المركز بالتراب الوطني، وكيف ينبغي أن يكون مجموع ترابنا الوطني وفق نظام المحافظات جاهزا ومؤهلا لمواجهة مثل هذه التهديدات.

وهنا.. من الطبيعي أن يكون حديثنا عن تجربة محافظة ظفار ليس كونها تعاني حتى الآن من المنخفض الجوي، ولا من حجم خسائرها البشرية والمادية العامة والخاصة، وإنما كونها قد أصبحت مُهدَّدة من بحر العرب بأنواء مناخية مرتين في السنة، والتاريخ القديم/الجديد والشواهد الحية في الذاكرة الوطنية، مما أصبح معه هذا البحر يشكل واحدًا من بين أكبر التحديات التي تواجه المواطن والتنمية الإقليمية؛ وبالتالي لم تعد المركزية أسلوبَ إدارة مثالية في حُقبتنا الراهنة.

من هُنا، تظهر أهمية إقامة هيئة عامة لإدارة الأزمات والكوارث في كل محافظة، تأخذ على عاتقها إعداد الخطط  والتنبؤ بالمخاطر، ورسم خارطة جغرافية شاملة لها، وزيادة الاستعدادات للتعامل مع جميع مراحل الازمات والكوارث، لا سيما من خلال الإنذار المبكر لوقوع الكارثة، إدارة فاعلة للكوارث والأزمات تتوافر لها كل المقومات والإمكانيات، وهذه حاجة ماسة لظفار؛ فالخصائص الطبيعية لها: جبال سهول وساحل طويل يطل على بحر الأنواء المناخية، تجعلها عُرضة لتهديدات مستدامة من قوى قاهرة غير عادية وغير منظمة تحدث بفعل الطبيعة وتداعياتها وتسبب خسائر: بشرية، ومادية.. فردية وعامة.

والإشكالية هنا: عدم التفاعلية المثالية بين المركزية والتراب الوطني، خاصة في الأحوال الاستثنائية؛ إما لبُعد المسافة أو لعدم الجاهزية الجهوية الظفارية أو البيروقراطية، وقد تتلاقي جميعها في حالات استثنائية، وهنا القلق من هذه الاستثنائية، فقد تحدث -لا قدرها الله- أزمة كبيرة لا تتمكن المركزية بسببها من تقديم الدعم اللوجيسي الضروري والعاجل للأسباب سالفة الذكر، فهل نتصور نتائجها؟ وهذا التصوُّر نُلح على استشرافه المؤسساتي من المنظورين السياسي والإنساني.

كما تُعاني الوحدة الترابية من البيروقراطية؛ فمثلا تعويضات ميكونو عام 2018 لم تصل للمتضررة منازلهم في ولايتيْ ضلكوت ورخيوت؛ فالمواطنون الذين هدمت منازلهم أو أصابتها الأضرار المختلفة لم يعودوا إليها حتى الآن رغم جمع 11 مليون ريال عماني؛ فهذه البيروقراطية مرجعها المركزية وعلاقتها بالوحدة الترابية؛ فهل يُعقل أنْ ينتظروا طوال هذه الوقت؟ وهل يُعقل أن يظلوا مهجرين خارج ولاياتهم، الآن قد مرَّت عليهم أزمتان، وقد ينتظرون الثالثة في أكتوبر وربما قبلها، العلم بيد الله، لكن التهديدات من بحر العرب قد أصبحت معلومة بالضرورة.

وهذه المعلومة بالضرورة، هي التي تبرِّر وجوب الانتقال إلى اللامركزية في التخطيط وإدارة الأنواء المناخية وآثارها من فيضانات وسيول...إلخ، ورغم هذه المعلومة بالضرورة لا توجد إدارة مكانية قوية ومعتمدة على ذاتها ولو نسبيًّا؛ فكل الاعتماد على المركزية، ولو انقطعت السبل مع المركز، فلن تتمكَّن الإدارة المحلية من تلقِّي الدعم اللوجستي في حينه، ويفتح لنا تصريح رئيس قسم المنتجات النفطية رُؤية نافذة في هذا المسار؛ وذلك عندما أوضح أنَّ سعة خزانات الوقود التي تغذي محطات التعبئة في ظفار تكفي من 4 إلى 6 أيام، فماذا بعدها لو استمرت الأزمة أكثر من ذلك وتعذر التواصل البحري والبري بسببها؟ وقد حدث في أنواء مناخية سابقة؛ فالاعتماد على السفينة النفطية أو ناقلات الوقود البرية لمحافظة بحجم ظفار يكفي أن يكون سببا كافيا للانتقال للامركزية.

وهذا يجعلنا نقيس عليها الكثير من القضايا، وفي المقابل تستوجب التخفيف من المركزية والاعتداد بالإدارات الترابية وفق منهجية وطنية مُلزِمة تراعي خصوصية كل إدارة ترابية/محلية؛ بحيث يمثل فيها فاعلون من مختلف التخصصات والتمثيليات الأهلية والخاصة والحكومية، تقوم بوضع خطة واضحة لحماية المدن والمنشآت الاقتصادية من الكوارث والأزمات -لا قدر الله- لحماية المدن منها، تُدمج في الخطط التنموية للبلاد، ويُراعى الإسراع في تنفيذ ما هو مُستعجل لإنقاذ الأرواح وتقليل الخسائر المادية أيضا.

وكما يقال فإنَّ كل دولار يُصرف على مرحلة الاستعداد للمواجهة سيوفر ثلاثة دولارات عند مرحلة المواجهة، وهذا ما يحدُث فِعلا في تاريخيَّة تجاربنا مع السيول والفيضانات.. تهدُّم منازل ومنشآت اقتصادية ومرافق عمومية، وعقبها تُرصد الموازنات وتُجمع الأموال للإصلاح والتعويضات، وبعضها تظل عالقة لعدم توافر السيولة المالية، وهذه الجزئية المهمة جدًّا، نُدلل بها للاعتداد بالمشروعية الآنية للإدارة المحلية للأزمات الشاملة، وجاهزية كل محافظة لمواجهتها ذاتيا، وهى كذلك تؤكد بما لا يدع مجالا للاختلاف أو الخلاف على علاقة الأزمات بالتنمية سلبا أو إيجابا.

وكلُّ من يعرف جُغرافية ظفار وتعقيداتها بخلاف المميزات التي أشرنا إليها سابقا، سيتَّفق معنا على استقلالية الإدارة الترابية للأزمات، بالتنسيق والتعاون الكامليْن مع المركزية، ولو ربطنا الأزمات بماهية التنمية الشاملة للجغرافية والديموغرافية الوطنية في ظفار، والتحديات التي تواجه كل ولاية ترابية بمحيطها الجيوإستراتيجي والتنموي.. سيرفع من حجم الاستشراف وصولا إلى المطالبة بإقامة مركز إقليمي للتخطيط الإستراتيجي لظفار، وهذا يُمكن أن يكون لكل محافظة من محافظات البلاد، مُهمته تحديد الأولويات لكل ترابية وطنية مُستحقة في الخطط التنموية الثلاث "السنوية والمتوسطة وطويلة الأجل"، ضمن رُؤية البلاد الإستراتيجية؛ بحيث تتحمل الجماعات المحلية مسؤولية تنميتها مما قد يُخفِّف من الضغوطات الشعبية على المركزية، كما قد أصبحت ضرورة معاصر للدولة الوطنية التي تتجاذبها الآن دولة المركزية القوية في العاصمة، والدولة الترابية التي ينقصها الكثير من المقومات الأساسية.