بين كان والآن

جيهان رافع

تخليدًا لذاكرة الضوء علينا أن نمرّ في عتمة دهاليز الحياة، وإلّا سنصبح كآلاتٍ عاطلة عن العمل، تلك الحكايات الشاهقة التي كانت وما زالت وقودًا لقناديل الذاكرة هي كقوس قزح تصيبك بالدهشة في كل ظهور وبين ما كان والآن نحن رهائن عقولنا وظروفنا نسافر إلى الماضي في إجازة توعوية لنستطيع أن نتقبل الحاضر

يقول ميخائيل نعيمة: كلما اتسع مدى البصر اتسعت آفاق الفكر والخيال، وكلما اتسعت آفاق الخيال اتسع العالم الذي نعيش فيه، فالفارق بين إنسان وإنسان هو الفارق في سعة العالم الذي يعيش فيه كل منهما في فكره وخياله.

بتنا الآن كلما هممنا للتأقلم مع فكرة مسح الرسائل بيننا وبين الزمن الجميل أعدنا قراءتها من جديد لنشحذ الهمم الآيلة للانقراض؛ فكلما ازداد الضيق بنا هنا نعود أدراج الماضي محملّين بجماليته، ومتناسين أي ضيق أصابنا حينها أو أصاب أولئك الذين عاشوا فيه وبنوا لنا هذه الصروح في خيالاتنا غير القابلة للانهيار، لكن لم نكلّف أنفسنا مشقة التفكير بما تعرضوا له من مشقات ومن مطبات وُضعت في طريق أحلامهم فخففت من سرعة ترجمتها على أرض الواقع ومما تعرضت أرواحهم له من خدوش وآلام الصدمات والخذلان؟ لكنّهم وبإصرارهم حققوا مبتغاهم. تحضرنا في هذه الأوقات الصحية الوبائية العصيبة التي نمر بها حكاية من حكايات التاريخ الشاهقة التي تعلقت نبراسًا لدروب الأجيال منذ ولادتها في أواخر القرن الخامس عشر ميلادي وهي الخاصة بالطبيب راشد بن عميرة الرستاقي لُقب بالرستاقي لأنّه ولد في الرستاق في سلطنة عمان تدهشك قدرته في ذلك الوقت الذي كان يفتقر لأقل الوسائل المريحة للكتابة على تأليف كتب في الطب وطرح طرق العلاج وخصائص الأمراض على طريقة النثر والشعر ومنها الأراجيز والرسائل والمخطوطات فمن النفائس التي خلّدها تاريخ الطب باسمه (زاد المسافر) (ابن السبيل) وغيرها الكثير كما ذاع صيته في ابتكار العلاج لأكثر الأمراض شيوعًا في تلك الحقبة واتباعه نظامًا خاصًا به أشبه بنظام الطب الحديث اليوم الذي يسمى بالعيادة الخارجية احتفلت به اليونسكو من ضمن مشاهير زمن الطب القديم كما أنّه كان الطبيب الإنسان فكان يقدّر حالة الفقير ويمنحه علاجًا بديلًا ليستطيع تأمينه.

ثمّ تعود بنا الذاكرة إلى حكاية تجذّرت في أديم الأدب واللغة العربية فتتقد بها الذاكرة وتلهب القلب حنينًا إنّه الشاعر والنحوي الخليل بن أحمد الفراهيدي وقد قال: الرجال أربعة رجل يدري أنّه يدري فذلك العالم فاسألوه ورجل يدري ولا يدري ألا يدري فذلك الناسي فذكروه ورجل لا يدري أنّه يدري فذلك الجاهل فعلموه ورجل لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري فذلك الأحمق فاجتنبوه.

علمٌ من أعلام الأدب واللغة العربية وضع علم العروض ودرّس إيقاعات موسيقية لوزن القصائد وانسيابها في نهر خالد لا تنضب الذاكرة منه, رغم اختلاف الأقاويل على مكان ولادته في العراق أو في عمان لكنها لم تختلف على إبداعاته وزهده بالحياة ودأبه على تأريخ مسيرته الأدبية وتركه إرثًا عظيمًا الذي تربى عليه سيبويه والأصمعي والكسائي وعبدالله بن أبي إسحاق وغيرهم من أعلام الأدب ومن الشعر الخليلي البديع: وما بقيت من اللذّات إلّا... محاورة الرجال ذوي العقول ...وقد كانوا إذا عُدّوا قليلًا... فقد صاروا أقلَّ من القليل.

كم نحن بحاجة اليوم إلى جسور جسورة كما هم توصلنا إلى برّ الأمان والإبداع والإنسانية نحن نتذكر كي نحيا بسلام نتذكر كي نأخذ جرعة من الضوء تخضرّ بها أحلامنا وتسعف ما تبقى فينا من احتضار وخمول مسيرنا نحو الهدف.