نحو فلسفة جديدة للإدارة الاقتصادية (2)

يوسف بن حمد البلوشي

تحمل رؤية "عمان 2040" في طياتها فلسفة جديدة وإطاراً عاماً شاملاً وواضحاً وجريئاً لتحقيق تحولات جوهرية على جميع مفاصل العملية التنمويه التي تمس الاستثمار والإنتاج والتصنيع والتصدير والتشغيل وريادة الأعمال وحشد المدخرات وتوجيهها للقطاعات الانتاجية، تعتمد بشكل أساسي على الإدارة الذكية للموارد وربط نقاط القوة والمقومات الضرورية لخلق واقتناص الفرص، وتمكين القطاع الخاص من تسيير عجلة الاقتصاد.

لقد أطلق فيروس كورونا الرصاصة الاولى في معركة اقتصادية عالمية حامية الوطيس ونحن لسنا بمعزل عنها ويستوجب علينا في عمان التفكير بأسلوب وفلسفة اقتصادية جديدة تتناسب مع الواقع الجديد. وعلينا أن نصارح أنفسنا أن مدى الازمة العالمية سيلقي بضلاله على وضعنا الداخلي والذي يواجه أصلا تحديات ناجمة عن استمرار تدهور أسعار النفط منذ عام 2014م ووجود عجز مزدوج في الميزانية العامة والحساب الجاري لميزان المدفوعات وارتفاع حجم الدين العام وتدني التصنيف الائتماني للسلطنة وتداعيات كل ذلك الاجتماعية والأمنية. ولذلك يجب أن نعي أننا أمام قدرات محدودة للحكومة على القيام بالمزيد فيما يتعلق بالتوظيف والترقيات والدعومات. وأن هناك أهمية لتغيير بوصلة تركيز الحكومة والمجتمع من الحلول المالية قصيرة الأجل إلى الحلول الإنتاجية. ومن وجهة نظري أن أدخال تحسينات هنا وهناك وأستهداف نمو تدريجي للقطاعات الاقتصادية المختلفة أمر غير كافي ولن يعصمنا من الركود والانحسار القادم. أننا نحتاج الى تغيرات جذرية في أساليب وأدوات النموذج الحالي وتبني فلسفة اقتصادية جديدة بفكر استراتيجي مختلف ينظر إلى المستقبل ومايحمله من تحديات وفرص بشغف ومعرفة علمية ويضع سياسات استباقية تعزز من جاهزية السلطنة للتكيف مع المتغيرات خلال فترة وجيزة فبلدنا عمان يتسم بصغر حجم سكانه المتعلمين، وجاهزية بنيته التحتية ومساحته الشاسعة الغنية بالموارد الطبيعية وتاريخه الاقتصادي والسياسي، وعلاقاته الدولية التي تمكنه استجلاب ما يحتاجه من عناصر مفقودة للتنمية.

إنّ الشغف والمعرفة العلمية والقدرة على حشد الهمم وتنظيم صفوف الإنتاج والعمل كفريق هي أبرز سمات الإدارة التي نراها ضرورية لتشكل فلسفتنا الاقتصادية الجديدة.  فأننا كغيرنا في هذا الكوكب أمام خيارات اقتصادية صعبة ويجب ألا تخضع المفاضلة بينها الى القناعات الشخصية وأهمية أشراك أهل الاختصاص واتخاذ القرارات بناء على معلومات تفصيلية مدروسة كما يتطلب الأمر سرعة وديناميكية في اتخاذ القرارات لتصويب بعض المسارات بما يتناسب مع النسيج العماني.

يتفق الجميع أنّ نهضة العقود الخمسة المنقضية، والتي شكلت بداية عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية اعتمدت على فلسفة اقتصادية تقودها الحكومه بالمطلق، مستثمرة العوائد والوفورات المالية، وقد أدت تلك الحقبة دورها بنجاح، ومع بداية حقبة جديدة من التنمية، تبني على المنجزات المتحققة، فإن ذات النهج السائد، والذي تلعب فيه الحكومة جميع الأدوار لم يعد صالحا، الأمر الذي يفرض تحولا مطلوبا في مقاربة جديدة، فلا الحكومة وحدها تستطيع الاستمرار بالقيام بجميع الأدوار لمختلف الأسباب، ولا القطاع الخاص وحده، والذي تعود على التمويل الحكومي لأنشطته ومشاريعه، من جهة،  وتفضيل الاستيراد على التصنيع من جهة أخرى. الأمر الذي أبقاه إلى حد كبير حبيس الأنشطة والعمليات المحلية فقط، مما حال دون تطوره بشكل كاف لإدارة وتسيير العجلة الاقتصادية. ومن وجهة نظري أن المرحلة القادمة هي مرحلة التحول في النموذج على ثلاثة مستويات رئيسة هي الإنتاج والتمويل وتحمل التكلفة والتي كانت الحكومة ولازالت، إلى حد كبير، تضطلع بهذه المهام، وذلك يتطلب الشراكة بين أطراف العلاقة الثلاثة، المجتمع (الأفراد، مؤسسات المجتمع المدني) وشركات القطاع الخاص والحكومة. فعلى صعيد الإنتاج والتمويل، سيكون القطاع الخاص هو الفاعل الرئيس، وعلى مستوى المشاركة في تحمل التكلفة الاجتماعية فإنّ المجتمع بأفراده ومؤسساته، يجب أن يتقاسم التكلفة، في حين يتحتم على الحكومة توفير البيئة الاقتصادية والاستثمارية المحفزة للإنتاج والتصنيع والتصدير. وانتهاج العمل بسياسات عامة استباقية، بعيدا عن ردود الأفعال، وسياسة رجل الإطفاء، ويستوجب الأمر تغيرات جوهرية في أداء كافة الوحدات الحكومية المعنية.

ويكمن التحدي في تحصين جدار الثقة الداخلي بين الحكومة والمجتمع والشركات. هذه هي الفلسفة التي تبنتها رؤية عمان 2040 وأمر بها المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه- بأن تكون الرؤية من المجتمع وإلى المجتمع. ولهذا جابت الرؤية جميع المحافظات واقتربت بدرجة كبيرة من هواجس المجتمع وبلورتها في وثيقة الرؤية عمان 2040.

وتتبنى الفلسفة الاقتصادية الجديدة الفهم الشمولي للاقتصاد وأنّ مسار التنمية يعتمد على تفاعل وحراك المتغيرات الاقتصادية والاحتماعية والسياسية وأدوار أفراد المجتمع ومؤسسات الأعمال والحكومة والمتعاملين من العالم الخارجي وأن العلاقات متشابكة ومترابطة وتتطلب فهم وأستيعاب لمكونات ونسيج ومقومات المجتمع العماني والتي تبثق منها سياسات عامة أقتصادية واجتماعية وغيرها للتأثير على المتغيرات الاقتصادية المختلفة بغية تحفيز حركتها في اتجاه معين. فالحلول المُجتزأة لن تنجح.

إننا نحتاج إلى فلسفة تحمل في طياتها سياسات اختراق محددة المعالم من بدء التنفيذ إلى تحقيق التحولات التنموية وإعادة هندسة وهيكلة الاقتصاد حسب المعطيات الجديدة. وينبغي أن تولي الفلسفة الاقتصادية الجديدة الاهتمام بملفات كبيرة من منظور استراتيجي قادر على اختراق الرتابة في الوضع الراهن على سبيل المثال وليس الحصر:

  •  ضرورة الإسراع في دمج صناديق التقاعد الحالية في صندوق واحد جامع، يحقق العدالة الاجتماعية بين كافة العاملين في السلطنة، ويشكل كيانا اقتصاديا واستثمارا وطنيا.
  •  العمل على دمج الشركات الحكومية ضمن خطة واضحة المعالم لإعادة هيكلة هذه الشركات لتحقيق الكفاءة.
  •  الشركات المجتمعية في الولايات والمحافظات بتوليفة جديدة وإدارة وحوكمة جديدة لتحقيق تنمية إقليمية وجملة من الفوائد.
  •  تشجيع مؤسسات القطاع الخاص في القطاعات المختلفة للقيام باندماجات لتكوين كيانات قوية وقادرة على امتصاص الصدمات والمساهمة بدور فاعل المرحلة القادمة والانطلاق إقليميا وعالميا، وخصوصا الاندماجات في قطاع الخدمات المالية والمصارف. 
  •  التوجه إلى الدفع بقطاع الطاقة المتجددة في المنازل والمصانع لما سيحققة من وفرات مالية وترشيد في الطاقة ورفع في الكفاءة.
  •  جذب الاستثمار الأجنبي المباشر والدخول في شراكات استراتيجية من شأنها تعظيم الاستفادة من قطاعاتنا التقليدية التي نتغنى بها ورفع كفاءتها.
  •  التعاملات مع العالم الخارجي واستثمار العلاقة الطيبة مع باقي دول العالم في تعزيز التجارة والاستثمار الأمر الذي لن يتأتى بدون إطار وآليات جديدة لعمل السفارات العمانية بالخارج والسفارات الأجنبية بالداخل.
  •  التوجه لتكوين صناديق مسرعات الاستثمار بشراكة دولية وإمكانات النفاذ إلى التمويل الدولي في القطاعات الاستراتيجية
  •  إدارة دورة الأنشطة التجارية والاقتصادية وتشجيع الإنتاج والتصدير والاستثمار والحد من الاستيراد وتحويل الأموال والأرباح وتحويلات العاملين إلى الخارج.
  •  تكثيف إدارة السياسات الاقتصادية المختلفة، بدءا بالسياسة المالية ودورها في أخذ تدابير احترازية والمحافظة على الاستقرار المالي. وكذلك السياسة النقدية ودور البنك المركزي في إيجاد تفاهمات مع البنوك فيما يتعلق بالأفراد ومؤسسات القطاع الخاص المعسرة. وتخفيض سعر الفائدة على القروض وتوجيهها إلى القطاعات الإنتاجية. وكذلك الحال بالسياسه التجارية والصناعية والتي بيد وزارة التجارة والصناعة وسياسات العمل والتي بيد وزارة القوى العاملة، سياسات الاستثمار وغيرها. يجب أن تكون هذه السياسات في حالة استنفار ونكثف من استخدامها فالاقتصاد والتنمية ما هما إلا محصلة لإدارة هذه السياسات. 

وأياً ما كان الأمر، يجب أن يرافق كل ذلك إدارة ذكية للتغير تحمل في طياتها حملة توعوية توضح أبعاد التحديات المالية والاقتصادية الماثلة والمتوقعة بشكل علمي أكثر شفافية، والإدراك بأن إعادة توزيع الأدوار لا يمثل انسحابًا أو تنصلًا من الحكومة من أداء واجباتها، وإنما إعادة توزيع الأدوار تعتبر ضرورية لضمان استقرار المجتمع في الوضع الحالي والمستقبلي. ومن وجهة نظري نحن في أمس الحاجة إلى بث خطاب تنموي جديد قادر على قرع الأجراس بشكل حقيقي ومسموع وحشد الهمم والجهود ونشر الوعي حول التحديات وسبل التعامل معها وإمكانية التغلب عليها بتظافر الجهود وإلا فإن العواقب وخيمة على الجميع، وأهمية التكيف مع الواقع والتحديات القادمة، واجتراح بعض التضحيات وتغيير الصورة الذهنية السائدة لدى البعض.

العالم يتحفز للانطلاق بعد جائحة كورونا في عالم الاستثمار والإنتاج والتصنيع مجددا لاقتناص الفرص المتوفرة على مستوى العالم؛ ويشترط الفوز بها تجهيز الأرضية وجهد يجب أن يبذل الآن لإعداد الخارطة الاستثمارية والفرص الاستثمارية في قوالب جاهزة تشد انتباه المستثمرين المحليين والدوليين وتشجعهم.

وختاماً فإن الزمن ليس زمن التمني وعمان على أعتاب مرحلة جديدة لتغيير نهج وفلسفة التنمية، مستندة في ذلك على حصيلة التجربة التنموية الثرية للسلطنة بما حوته من إنجازات وجوانب مضيئة، وعلى عزيمة وإصرار أبنائها. فالمعطيات تشير إلى أننا في صدد أزمة ليست آنية وضرورة الاستعداد بفلسفة اقتصادية جديدة مبنية على معرفة عميقة بالواقع ومستشرفة المستقبل بعناية. فمن قَلْبِ المحن تُوْلَد المنح؛ والأمر بأيدينا في معادلة العولمة الجديدة والحلول تأتي من الداخل لا من الخارج.