الأسود العنسي.. براغماتية السياسة!

 

كان العنسي في سياساته مع القبائل براغماتيا حذقا قادرا على ربط التحالفات، وإذابة الخلافات لتحقيق الهدف السياسي المنشود، وكان يستغل البعد القبلي لتحقيق مآربه السياسية للوثوب إلى الزعامة المنتظرة

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

 

 

"من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل؛ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

 

في تاريخ كل أمة، فاصل زمني تاريخي، يفصل بين زمن وآخر، يضع خطًا بين زمنين، يقوم المؤرخون وحتى العامة بتأريخ الأحداث قبل/ بعد هذا الفاصل الزمني، وفي أحداث التاريخ الإنساني فواصل زمنية كثيرة، فمثلاً هناك تاريخ العرب ما قبل الإسلام، وتاريخ صدر الإسلام، والدولة الأموية والعباسية، وبين كل مرحلة وأخرى خط زمني تاريخي فاصل، وكمثال لا الحصر في الدولة الأموية هناك العهد السفياني والعهد المرواني كما يذكر المؤرخون.

في التاريخ السياسي الإسلامي لايُمكن لأيِّ باحث خاصة في مرحلة صدر الإسلام، أن يتجاهل إحدى أهم حركات الردة، التي قادها عبهلة بن كعب العنسي وكان يلقب بالأسود العنسي، وهو ينحدر من قبائل مذحج وهي قبائل مُعظمها من البادية، وبالنسبة لعبهلة فمن يتتبع سيرته سيجد أنَّه لم يذكر عنه أنه أسلم أو أعلن إسلامه، لكن عرف عنه أنَّه كاهن من كهنة قومه، ويسكن مدينة قريبة من نجران اسمها (كهف خبان)..

وقد عرف بعدة مُسميات منها: ذو الحمار، ذو الخمار، الأسود العنسي (لسواد وجهه).

كان خطيبًا مفوهًا وأقنع أهله أنه نبي مرسل، ثم أعلن ثورته في الأيام الأخيرة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم  يعلي بن أبي أمية القرشي لاغتيال العنسي.

وكان الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام قد أرسله إلى الأبناء ليساندوه في قتل الأسود العنسي، وهم قوم فرس أحضرهم سيف بن ذي يزن بطلب منه إلى كسرى في 570 هجرية، في تلك الفترة كان الأحباش يسيطرون على صنعاء العاصمة السياسية وعدن العاصمة الاقتصادية، في عهد أبرهه الحبشي وابنه مسروق، وكانت الأوضاع حينئذ مزدحمة بالأحداث، وكان دخول الأحباش أيضًا إلى جنوب الجزيرة قد ترك تأثيرًا سياسيًا على تلك الفترة التاريخية..

لربما كانت حركة الأسود العنسي هي إحدى أبرز الحركات المناوئة في الأشهر الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانت تحظى بدعم قبلي ولها تحالفات مع عدة قبائل، ولكن تمَّ القضاء عليها رغم قوتها.

كان العنسي في سياساته مع القبائل براغماتيا حذقا قادرا على ربط التحالفات، وإذابة الخلافات لتحقيق الهدف السياسي المنشود، وكان يستغل البعد القبلي لتحقيق مآربه السياسية للوثوب إلى الزعامة المنتظرة، حيث قام بإثارة النعرات القبلية كسلاح يواجه به خصومه، وهو سلاح ولاشك قادر على استمالة حتى المخالفين له حتى من داخل الجانب القبلي، من هنا كانت خطورة حركة العنسي.

يتضح مما سبق صعوبة فهم التاريخ دون الدخول إلى التحليل التاريخي وبحث الحيثيات وتداخلاتها وتخارجاتها، وبالطبع مما سبق نستفيد منه لفهم الحاضر، واستشراف المستقبل، وهو ورقة القبيلة وفعاليتها، كما ورقة الطائفة أوغير ذلك من أوراق سياسية يستغلها البراغماتيون في معاركهم مع خصومهم، واستخدام هذه الأوراق للالتفاف على ثوابت لا خلاف حولها، حيث تستخدم لإذكاء النعرات للاستفادة منها بالصراعات السياسية.

الأسود كان صراعه بالأساس دينيا حيث ارتدَّ عن الإسلام ووجبت محاربته (رغم عدم ثبات صحة إسلامه)، لكنه استغل القيمة السياسية للقبيلة ومركزه المتقدم بقيادتها لمحاربة الحق.

قوة القبيلة التي أستند عليها العنسي كانت أشبه بالواقعية الهجومية لو نحسبها بنظريات علم السياسة، وكان ناجحاً لولا عدم إدراكه أوعدم كفاءة مستشاريه الذين لم يقدموا له استشارة تواكب الوضع الواقع وقتها، فكان ضحية عدة احتمالات منها: الاستناد على ثقل قبلي هو في الحقيقة لا يملك القوة اللازمة للمواجهة، وعدم امتلاكه موهبة الذكاء والدهاء في هذا الأمر، وعدم قراءة الساحة بشكل جيد.

زائد أنَّ القضية بالأساس خاسرة، فهو ارتكب فعل الردة عن الإسلام وهذه من أكبر الموبقات، مع الوضوح التام بالنسبة للمتتبع لسيرته بأن إسلامه لم يكن سوى إسلام طاعة، وليس كقناعة، لذلك وعطفا على الأسباب الموضوعية سالفة الذكر لم يستطع الصمود وتلاشت قوته، وانكشفت قدراته، وسقط في مواجهة المد الإسلامي.

إنّ خروج الأسود كان في زمن النبي وقُتل في حياة النبي، ووصل الخبر بعد موت النبي بثلاثة أيام، وكان خروجه إلى مقتله ثلاثة أشهر، منها شهر كامل استغرقه لإخضاع اليمن كلها، على الرغم من صدى حركته، إلا أنَّ المدة قصيرة، ولم يكن لها تأثير سياسي وثقافي، وإن كانت قد تركت بصمة تاريخية في تتبع تحركات القبائل جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث ماتزال تدرس ويتم بحث مثل هذه الحركات السياسية التي اتخذت من الطابع القبلي عنوانا لها.