تثمير وتأمين

 

أحمد بن سالم الحوسني

يطمح الإنسان إلى الخير ويرغب به، "وإنه لحب الخير لشديد"، ويسعى إليه ويطلبه، سواء كان وظيفة أو مالا، أو تجارة، أو رزقاً أياً كان نوعه، ورحلته في الطلب مكتنفة بالمشقة والجهد، مما قد يدفعه للتراخي والتراجع، فإن هو واصل وشق طريقه وبلغ مراده، خالجته مشاعر أخرى للحفاظ على ما لديه والخشية على ذهابه، وقد تعب فيه أشد التعب، خاصة إن كبر في السن، وأصبح لديه عيال ضعاف يخشى عليهم.

كل هذه المشاعر والمخاوف التي قد تأتي على بالك تفهمها الله، فهو خالقك، ومدبر أمرك، والعالم بما لا تعلمه عن نفسك: "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون". هذه الآية الكريمة من أعجب الآيات التي تغوص مع النفس الإنسانية لإثارتها بطريقة تفوق ما يتحدث عنه محفزو الذات وتغيير السلوك، إذ غالبا ما يرجعون دوافع السلوك والتغيير إلى   المتعة والألم، بمعنى أن الإنسان قد يمارس عادة معينة أو يكتسبها بدافع المتعة أو إشباع الرغبة التي يجدها فيها، أو بدافع الألم الذي يريد التخلص منه أو يخشى مواجهته إن لم يلتزم بها. وهذه الجزئيات تعمل عليها النشرات الحكومية والبرامج الإعلامية التوجيهية وشركات الإعلان والترويج. لكنها في الغالب إما أن تختار جانب المتعة بأن تظهر مثلا السعادة أو القوة في المنتج أو من يستعمله، وإما أن تختار جانب التخويف من الألم، كأن يكون الإعلان عن تأثير الجراثيم والفيروسات مثلا ويظهر في آخر الإعلان اسم المنتج الذي سيبقيك آمناً من كل تلك المخاوف إن استعملته. وقلما تجد إعلانا يستطيع أن يقدم لك المتعة واتقاء الألم في وقت واحد.

أما هذه الآية الكريمة فقد قدمت من خلال كلمات يسيرة: متعة، وألما، وأضافت إليهما شفقة وحبا، بل إنها قدمت مستويات مثيرة من المتعة، ثم نزعتها إلى الشفقة، ثم مستويات من الألم بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالكمال، ولا يمكن أن تصدر إلا من ذي الجلال.

راقب معي: "أيود أحدكم": إثارة للرغبة القلبية موجهة لكل شخص على حدة، بعد أن كان الخطاب جماعياً قبلها. "أن تكون له": إثارة للرغبة في التملك، وهي من الرغبات الداخلية في النفس البشرية.  "جنة": هنا تبدأ المتعة في الارتقاء، فالجنة والبستان مال محبب للنفوس، ويقاس عليها كل أنواع الخير والرزق من تجارة وصناعة وعمارة وأنعام ووظيفة. "من نخيل وأعناب": وهي من أرقى أنواع الجنان وأكثرها نفعاً؛ فترتقي النفس في الاستمتاع.

قد يسبق إلى الذهن وسواس أنها طالما أنها جنة نخيل وأعناب؛ إذا فتحتاج إلى كلفة ورعاية، فيرد النص التالي ليبطل هذه الوسوسة:

"تجري من تحتها الأنهار": فلا كلفة فيها؛ إذ أهم ما تحتاجه الأشجار والزروع الماء، فإن كان يجري من تحتها فلا فضل أكبر من ذلك. وكذا تجارة رائدة بلا كلفة كبيرة، أو مصنع متميز مواده الخام يسيرة وعمالته خبيرة، أو بناية جميلة في موقع مثالي يطلبه كل أحد، أو وظيفة راقية غير مرهقة، وهكذا.

انظر لنفسك الآن أين بلغت في ارتقاء المتعة النفسية. ومع ذلك قد يداخلك شعور أنها مع كل ذلك قد تكون غير منتجة! فيأتيك النص المطمئن: "له فيها من كل الثمرات": منتجة لكل أنواع الثمار التي إن انقطعت إحداها في موسم جاء موسم غيرها، فلا خوف عليها من هذه الجهة. وكذلك التجارة رائجة وربحها لا ينقطع طيلة العام، والمصنع كذلك، والبناية مؤجرة إيجاراً كاملاً، والوظيفة والأنعام وغيرها.

وصلت الآن في الإثارة إلى مستوى متقدم، وهو أعلى ما يطمح إليه أي إنسان من أموال وأرزاق الحياة الدنيا.

تبدأ الآن الآية في إثارة شعور آخر يمتزج مع الشعور السابق: "وأصابه الكبر": يبدأ هنا تفكير الإنسان في نفسه وقد كبر، ومع الكبر تفتر الهمة للطلب وتتقاصر القدرة عن السعي، فيشعر بحاجة أكبر إلى تلكم الجنة الموعودة أو التجارة أو المصنع أو البناية أو الأنعام أو الوظيفة.

"وله ذرية ضعفاء": وهنا يستثير فيه الشفقة إن لم يبال بأهمية عجزه وشيبته، وكأنه يقول أنت محتاج إلى حماية تلكم الجنة، إن لم يكن لك فلأولادك الضعفاء.

"فأصابها إعصار": يبدأ من هاهنا بإثارة الألم، الجنة التي ترغب بحمايتها عن كل ما يؤذيها أو ينقص من خيرها أصابها إعصار، فيقف مشدوها. ومثلها تخويف من أزمة تمر على التجارة أو تهديد على الوظائف، وهكذا.

ثم يتوالى الألم: "فيه نار": أي أنه ليس مجرد إعصار عادي بل فيه صواعق نارية،  يشتد الخوف على الجنة من أن تتعاظم الخسائر فيها. وعلى التجارة لأن الأزمة محملة بمخاطر كبيرة بدأت تظهر علاماتها، وعلى الوظيفة فقد بدأ القطاع في صرف الموظفين المماثلين فيشتد الرعب ويعظم.

"فاحترقت": انتهى الأمر، لم يكن مجرد خطر محدق، بل أصبح واقعا، خسرت كل شيء، ذهبت الجنة، واشتعل المصنع، وغارت التجارة، ووقعت البناية، وفصلت من الوظيفة، وما عدت تملك شيئاً أنت ولا عيالك الضعفاء!!

بعد كل هذه المشاهد، يظهر لك الحل والمخرج الذي بإمكانه أن يوفر لك تلك المتعة ويمنحك الأمان من كل ألم: "يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض".

يا الله!! لو اجتمعت الإنس والجن ومن في الأرض جميعاً على أن يصوغوا إعلانا مثالياً، فلن يقارب هذا الدعوة الإلهية العجيبة الصادقة.

اقصد من مالك الطيب، ولا تعط ما تأنف من قبوله، "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه".

واعلم بأنك أنت المحتاج كما ظهر لك، و"الله غني حميد".

إن أردت نماء وتقدما وخيراً في أي أمر كنت فيه فأنفق منه، والله يتكفل بنمائه، "ويربي الصدقات". 

اطلعت قبل أيام على قصة شركة وطنية قاربت على الإفلاس، فاتخذ رئيس مجلس إدارتها قراراً بزيادة رواتب الموظفين بنسبة عشرة بالمائة، لينقلب الحال إلى بركة ونماء، وتزداد أرباح الشركة إلى الضعف!

تريد ترقية في وظيفتك تصدّق، تريد لورشتك أن تصبح مصنعا تصدّق، تريد لتجارتك أن تتوسع تصدّق، نعم تصدّق الآن: "وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى".

وإن كنت تخشى على ما لديك من خير وفضل فبادر إلى التأمين عليه، تأمين حياة مع الله. إنه تأمين شامل لا تستطيع أن توفره لك أكبر شركات التأمين، تأمين فيه تثمير، وتأمين ضد المخاطر والعجز، وتأمين لاستمرار العناية بأهلك وأولادك. إن أمّنت مع الله ضمن لك الخير والفضل، "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا" فالمغفرة في الآخرة، والفضل لعله في الدنيا أو فيهما معا؛ إذ جاء في مقابلة الفقر الموعود به في الدنيا من قبل الشيطان.

ثق بالله وهو سيتكفل بكل شيء، "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين"، أعط يعطك الله، ورد في الحديث القدسي: "قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك".

أتود أن أطلعك على حالة تأمين وقعت ليطمئن قلبك ويسكن قلقك؟ يقول الله تعالى: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك"

انظر كيف حفظ الله لهما كنزهما وثروتهما لوقت يستطيعان أن يدبرا فيه شؤونهما، وإنما حفظه بتأمين وصلاح أبيهما، والصدقة أحد أركان الصلاح وأسبابه، "لئن آتانا من فضله لنصدّقن ولنكونّن من الصالحين"، "لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصّدق وأكن من الصالحين".

الإنسان إن تذوق طعم الإحسان وتأثيره هفت نفسه إليه، وتوقدت همته لينمي تجارته أو مشروعه أو دخله؛ فيزداد جمعا وتوسيعا ليزيد إنفاقا وتوزيعا. أما من كان همه الجمع لنفسه فأطماعه مهما كثرت معدودة، وحاجاته مهما تطاولت محدودة، فهو: إما: قانع بما جمع، فلا همة لزيادة، ولا طمع في سعادة، بل ربما ارتدت نفسه عليه، وانقلبت روحه فاترة خائرة، لا ترى في متع الحياة أية لذة، فقد جربت كل جديد وتذوقت كل فريد، فما عاد يروي ظمأها شيء، ولا يرسم بسمتها فيء. وإما: منطلق بلا وعي، همزة لمزة، يضع المال بأم عينه، لا في عقله ولا بيده، وهو أقرب إليه من والده وولده، فيا لله ما أتعسها من حياة! أن يجد وهو محروم! وأن يكسب وهو مهزوم!

"ما من يوم يصبح فيه الناس إلا وينزل ملكان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفا، ويقول الثاني: اللهم أعط ممسكاً تلفا". الله يعطي من يفتح على غيره، ويسعد الناس بخيره، بل هو خير الله أجراه على يديه، وليس لله حاجة في أن يمنعنا وهو اللطيف بنا، لكن من لطفه ببعض عباده أن يمنعه ولا يعطيه، لأنه لم يظهر استعدادا لمزيد: "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض".

تعليق عبر الفيس بوك