إنجاز استثنائي في زمن "كورونا"

 

د. عبدالله باحجاج

تمَّ، مُؤخرا، افتتاح مختبر علم الأمراض الجزيئي في مستشفى السلطان قابوس بصلالة، ويستحق أن نصفه بأنه فعلا إنجاز استثنائي من كلِّ النواحي، ويُمكن البناء عليه لمرحلتنا الجديدة ما بعد "كورونا"، وحتى لو أخذنا المدة الزمنية الطويلة التي كانت تتنظر فيها ظفار مثل هذا المختبر، فهى -أي هذه المدة الزمنية- تعزِّز الوصف الاستثنائي، وتفتح أفق المرحلة الوطنية للكثير من المسارات التي ينبغي الإسراع في استدراكها على صعيدنا الوطني في ضوء خلفيات هذا الإنجاز.

هذا المقال من المقالات التي نقفُ فيها مُتردِّدين في كيفية بنائه الفني والمعلوماتي؛ فقاعدة الأهم ومن ثمَّ المهم، لن تصلح معنا كمنهجية؛ لأنَّ هذا الإنجاز لن يحدث إلا في زمن كورونا، وكذلك لماهيات هذا الإنجاز وقيمته لمحافظة أصبحت ذات محتوى ديموغرافي وطني وعالمي، يبين مدى الحاجة القصوى لمختبر حديث متكامل منذ أمد طويل، بل والإسراع في تنفيذ مخططات تطوير خدماتها الصحية بما فيها مستشفاها الجديد، فكيف تحقق هذا الحلم الآن؟ لذلك يستوجب التوقف عنده، لربما نجد فيه الإلهام لمسارات وطنية جديدة.

قيمة هذا الإنجاز "الاستثنائي" تعني أنَّ محافظة ظفار قد أصبح لديها الآن مختبر عصري بأحدث التقنيات والتكنولوجيا لإجراء كل الفحوصات بدلا من إرسال بعضها إلى العاصمة مسقط، والتي تستغرق عدة أيام قبل "كورونا" وأثنائه ما بين 3-4 أيام، وبإمكانه أن يفحص قرابة 60 حالة لعينيات كورونا إذا عمل بكامل طاقته، وهو يعدُّ الثاني من نوعه في البلاد بعد المختبر المركزي في مسقط.

وبإمكان هذا المختبر الآن إجراء فحوص الفيروسات والأمراض المعدية؛ وتشمل كورونا في أقرب وقت، وعدم الحاجة لإرسال مثل هذه الفحوصات إلى المختبر المركزي في مسقط، وتوفير نتائج الفحص في نفس اليوم؛ سواء لمرض كورونا أو غيره من الأمراض، وهذا من أهم الجوانب الاستثنائية لهذا الإنجاز في جانبه الإنساني/الاجتماعي، لكنه ليس أولها من حيث الاستثنائية؛ فالأول ينصبُّ في الكيفيات التي أنتجت مثل هذه الجوانب، وهى تكمُن في ثلاثة أوجه أساسية؛ هي:

أولا: القيمة المالية للأجهزة الستة التي بلغت 150 ألف ريال عماني فقط؛ فهذا المبلغ يهز الوعي، ويطرح الكثير من التساؤلات، وقد شكَّل مفاجأة كبرى أثناء شرائه على نفقة شركة مطاحن صلالة؛ فقد كان يعتقد أنه يساوي أكبر من ذلك المبلغ بكثير، هل هذا يرجع لآلية الشراء؟ فقد كانت مباشرة من المصنع دون طرف ثالث، وهذا يفتح لنا الطريق لتصحيح مسارات المناقصات التي تُثير تحفظات اجتماعية لضخامة سقوفها المالية!!

ثانيا: سُرعة إقامة هذا المختبر، وهى لا تتعدَّى الشهر الواحد، وهذه الفترة الزمنية تشمل إقامة الهيكلية التقنية للمختبر، وكذلك تدريب كوادر وتأهيل فنيين وإخصائيين عُمانيين، أصبحوا الآن مؤهلين لتولِّي المسؤولية كاملة، ويبلغ عددهم 4؛ أحدهم بدرجة الماجستير، وهذا المختبر الآن في كامل استعداده التقني والمهني والبشري لانطلاقة رسالته الإنسانية والوطنية، بعد أن تمَّ التأكُّد من دقة نتائج فحوصاته مع فحوصات المختبر المركزي بمسقط.

ثالثا: الرِّهانات على خبراتنا العُمانية بالدرجة الأولى، ولن نبالغ إذا ما قلنا حصريا، فليس كل من انتهت صلاحيته القانونية يعني انتهاء قدرته المهنية، وهنا نُشيد بخطوة المديرية العامة للصحة بمحافظة ظفار، التي استعانت بخبرات شخصية عُمانية تمَّت الاستعانة بها في التوقيت المناسب، وهذا ينمُّ في حدِّ ذاته عن كفاءة الفاعلية الإدارية والقيادية الصحية التي تختار الكفاءة المناسبة في الزمن المضغوط الملائم؛ لتُسهم معها في صناعة الإنجاز تحت قسوة الضغوطات؛ فاختارت الدكتور محسن بن سليمان العامري لهذه المهمة العاجلة، وقد كان في مستوى الرهانات؛ فطوال شهر واحد فقط، تمَّ تأسيس هذا المختبر التقني الحديث، وأشرف على تدريب وتأهيل كوادره بعد أن وفرت لها الإدارة الصحية الإقليمية بيئة النجاح اللازمة ووسائل الدعم المختلفة لتحقيق هذا الاستثناء.

هذا الاستثناء في الإنجاز يأتي لإغناء مرحلتنا الوطنية التي شغلها الشاغل هذه الأيام، هاجس التخلص من كفاءاتها بحكم معيار شكلي فقط، وهو إحالة للتقاعد كل من أكمل 30 سنة؛ مما قد يستفيد منها الخارج، وكل من يبحث في سيرة هذه الكفاءة العمانية التي ظهر معدنها مجددا أزمة كورونا، سيجد فيها متشابهات من هذا الفكر.

فالعامري كان يشغل مدير المختبر الجنائي بشرطة عُمان السلطانية "سابقا" وهو الآن خبير البصمة الوراثية والأدلة الجنائية لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا، وله أكثر من 40 سنة خبرة في العلوم الجنائية والبصمة الوراثية والتقنيات الحيوية، وعمل خبيرا للبصمة الوراثية ومعاينة مسارح الجرائم في المختبر الجنائي بشرطة دبي، كما عمل مستشارا لتأسيس قاعدة بيانات البصمة الوراثية بشرطة قطر، تجربته طويلة وثرية، وما ذكرناه ما هو غيض من فيض.

رابعا: الشكر والتقدير لشركة مطاحن صلالة، التي بمُبادرتها المجتمعية حققت الطموح الاجتماعي في زمن كورونا، وستظل هذه المبادرة محفورة في ذاكرتنا باسمها، وبها تؤسِّس الشركة لكل مساهم فيها، بنك مستدام للحسنات، ومن فضل الله عز وجل عليهم، أن يتزامن نجاح هذه المبادرة في أيام شهر رمضان المبارك، شهر الحسنات ومضاعفتها، شهر الرحمة، شهر الغفران، فالسعيد من يوفقه الله لخدمة وطنه ومجتمعه.

لكن، هذا الإنجاز يطرح الآن قضية من القضايا الكبيرة في بلادنا، وهى مدى قدرة المركزية على تلبية الحاجة اللامركزية في الوقت المناسب؟ فهل على محافظة ظفار بحجم ثقلها الوطني والديموغرافي والجيوإستراتيجي ان تنتظر عقودًا حتى يُؤمن لها مثل هذا المختبر الحديث؟ ربما علينا أن نتفاءل بمستقبل التطورات الجديدة التي ننتظرها لكي تنقلنا إلى مستوى استيعاب الجغرافيات العمانية، ومقوماتها الاقتصادية المنتشرة على كامل ترابها؛ وذلك من خلال نظام عملي لإدارة مواردها الاقتصادية وتحقيق منظومة أمنها الوطني التي لم تعد محصورة الآن في ثلاثية الأبعاد فقط، وهى الحروب والإرهاب والهجمات الإلكترونية، وإنما أصبحت مفهوما شاملا، يضم في مفاصله الأساسية: الأمن الصحي، وأمن المواطنين، والأمن الاقتصادي..إلخ، وقضية توسيع مفهوم الأمن الوطني تُلامس فينا اهتماما متزايدا قد نتناوله في مقال خاص في ضوء تجارب "كورونا".