الأزمات المتكررة وأولوية الأمن الغذائي

 

سالم الكثيري

صَدَر هَذا الأسبوع مُؤشِّر الأمن الغذائي للعام 2019؛ حيث احتلتْ السَّلطنة المرتبة الخامسة عربيًّا، ويقيس المؤشر مدى قُدرة المواطنين على شراء الغذاء، ومدى جودته وتوافره، وهذا أمرٌ مُهمُّ دون شك، إلا أنَّ الأكثر أهمية منه هو مَقدرة الدولة على تحقيق نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي من الغذاء داخل حدودها دون الحاجة لاستيراده من الخارج مقابل المال.

والمتابع لسياسة الأمن الغذائي في السلطنة، يتَّضح له الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة للوصول بهذا الهدف إلى مستويات جيدة، ولعلَّ الأخبار المتواترة باستمرار عن مشاريع الشركة العمانية للاستثمار الغذائي القابضة -والتي تأسست 2012 بهدف تعزيز الأمن الغذائي في السلطنة- خير دليل على جدية الحكومة على هذا الصعيد؛ حيث قامت الشركة بتأسيس مشاريع مُستقلة، أو بالشراكة مع شركاء آخرين، في مجال الثروة السمكية والحيوانية والدواجن وإنتاج الحبوب والتمور واللحوم والألبان... وغيرها، وقد بدأ بعض هذا الإنتاج يظهر على أرض الواقع، والبعض الآخر يفترض أن يصل الأسواق في السنوات القليلة المقبلة بحسب الخطط المعلنة، هذا على مستوى مشاريع التصنيع الغذائي الضخمة.

وفيما يخصُّ المقومات الطبيعية التي يُمكن أن تحقق لنا الحدَّ الأدنى من الأمن الغذائي بتكاليف معقولة جدا، فيتوجب على المعنيين أن يضعوا في الاعتبار إمكانية الاستفادة من الموانئ شبه الطبيعية الممتدة على طول سواحل عمان، والعمل على تهيأتها للصيد، ولنقل البضائع داخليا باستخدام السفن الخشبية أو بالقوارب الصغيرة، وفي مجال الثروة الحيوانية لم يعد هناك بُد من الاستفادة من الأعداد الكبيرة لهذه الثروة، والتي تشير الإحصائيات إلى أنها بمئات الآلاف في مختلف محافاظات السلطنة؛ وذلك بوضع برامج تشجِّع المربي على الإكثار، ومن ثم شراء الحيوانات منه، وإدخالها بالتوازي مع خط الاستيراد الخارجي للرؤوس الحية وإكثارها، بغرض توفير اللحوم، والذي يمثله مشروع البشائر، مثلما يتم العمل به في مشاريع الألبان، كمشروع مزون الذي يقوم على استيراد الأبقار من الخارج، وإنشاء العنابر والحظائر وكل الأمور المتعلقة بالإنتاج، ومشروع المروج الذي يقوم على التعاقد مع المربي مباشرة لتوفير حليب الإبل والأبقار، وهي تجربة جديدة نتوقع لها النجاح؛ لما تقوم عليه من مبدأ التشاركية بين المربي والشركة المصنعة.

وعلى صعيد الزراعة، على أصحاب القرار ضرورة إعادة النظر في تحقيق الاستفادة القصوى من نظام الأفلاج الفريد من نوعه عالميا، والذي تقوم عليه الزراعة في معظم مناطق السلطنة؛ حيث تتوافر الماء دون الحاجة إلى مولدات كهربائية، أي أنه نظام ري بصفر تكلفه تقريبا، واستعادة مزارعنا المتوارثة أبًّا عن جد من قبضة "كاشور" المحتكرة والعابثة بهذه الأرض الطيبة. أما على مستوى المساحات الشاسعة الصالحة للزراعة بمستويات تجارية للتصدير الخارجي، فإنَّ منطقة النجد خير مثال على خصوبة الأرض وتوافر الماء ووفرة الإنتاج؛ بحيث يرى البعض أنها سلة غذاء الخليج بامتياز؛ لذا فإنَّ إيلاءها الأهمية القصوى لتحقيق أكبر قدر من الإنتاج الزراعي أمرٌ بات يفرض نفسه بكل وضوح. ثمَّ إن هناك مقومًا طبيعيًّا آخر وهو موسم الخريف الذي تستمر فيه الأمطار بالهطول على محافظة ظفار طيلة ثلاثة أشهر، والذي يكلف أيضا صفر تكلفة؛ وذلك أنَّ الري سيكون من أمطار الخريف، والأرض ستكوِّن حظائر الحيوانات التي ينزح كثير من مالكيها إلى السهل أو إلى القطن (المنطقة المحاذية للبادية).

فما المانع أن تقدم وزارة الزراعة والثروة السمكية مشورتها ودعمها لأبناء الريف لاستعادة الزراعة الموسمية، وبكميات أكبر من المحاصيل التقليدية كاللوبيا الجبلية (الدجر)، والذرة بمختلف أنواعها، والخيار، إضافة إلى تطعيمها بأنواع جديدة من الخضار القابلة للنمو في هذا الموسم، صحيح قد ينظر البعض منا لهذا الطرح على أنه ضرب من الخيال، ولكن هذه النظرة السلبية ستتغير إذا علمنا أنَّ حوالي 70% من الإنتاج الزراعي عالميا وفقا لبعض الإحصائيات يأتينا من الزراعة المنزلية، والتي يتم ريُّها بماء مدفوع الثمن فما بالك إذا كان الماء يتساقط علينا من السماء رذاذا؛ وبالمجان وبطريقة أشبه بالري بالتقطير الحديثة.

كنت قد كتبت قبل عامين عن ضرورة إنجاز مشاريعنا الغذائية بأسرع وقت ممكن؛ وذلك لما رأيناه في الأعوام القليلة الماضية من أزمات سياسية واقتصادية العربية منها والعالمية، ومن حروب طاحنة تأكل كل ما تأتي عليه من بشر وشجر وحجر، والتي قد لا نستطيع معها توفير احتياجاتنا الغذائية حتى وإن توافر لدينا المال. ولعل أزمة كورونا التي نعيشها اليوم -والتي دفعت الدول لإغلاق حدودها وانكفأت على نفسها، بل ووصل الأمر ببعضها إلى الاستيلاء على شحنات طبية أو غذائية لدول أخرى في طريقة سطو بدائية وقحة- أن تدفع بنا إلى المضي أسرع فأسرع لإنجاز منظومتنا الغذائية الواعدة اليوم قبل غدٍ بإذن الله.