عبيدلي العبيدلي
لربما أول ما تحتاجه أي من الدول التي اجتاحها وباء فيروس كورونا هو البيانات، على أن تتمتع هذه البيانات بالدقة المرجوة منها، وسرعة الوصول لها في الوقت المناسب، والهيئة (Format) الملائم، والكلفة المنطقية، كي يتسنى لصاحب القرار، في أية قضية قيد البحث من اتخاذ القرار الصحيح المبني على الاستنتاجات السليمة، القائمة على البيانات المستخرجة، التي تم جمعها وتخزينها بالطرق الملائمة على التوالي.. ولقد تطور علم جمع البيانات، وتطرق حليلها، حتى أصبح يعرف اليوم باسم تحليل البيانات الضخمة (Big Data Analytics). وتحولت نتائج ذلك التحليل إلى جزء محوري من بنية صنع قرارات الدول، خاصة العظمى منها، عند اتخاذها قرارتها، وفي مقدمتها تلك الاستراتيجية منها.
وبخلاف ما يعتقده البعض، لم تعد تلك القرارات محصورة في قضايا مثل إعلان الحروب، أو عقد معاهدات الصلح، بل تجاوزتها، فأصبحت أداة من أدوات بناء أنظمة مثل أنظمة المرور، او أو أنظمة حركة المسافرين... إلخ.
وقد برزت أهمية تحليل البيانات الضخمة، وجدواها مؤخرا عند اجتياح وباء كورونا بلدان العالم الكبيرة منها مثل الصين، والصغيرة منها مثل تايوان. وقد قام موقع "نون بوست" الإلكتروني بترجمة ونشر دراسة من إعداد أستاذ طب الأطفال في مدرسة طب جامعة ستانفورد الدكتور جيسون وانج، وجرى نشرها في "مجلة الجمعية الطبية الأمريكية"، تناولت بالتفصيل كيف استعانت تايوان بتقنية "تحليل البيانات الضخمة" في حماية نفسها من تفشي ذلك الوباء.
وكما جاء في ذلك البحث بشأن الحد من انتشار كورونا في تايوان "التي كان من المتوقع، نظرًا لقربها من الصين، أن يؤثر انتشار فيروس كورونا بشدة عليها، حيث يعمل أكثر من 400 ألف من مواطنيها في بر الصين الرئيسي. ومع ذلك، سجّلت تايوان أقل من 50 حالة إصابة، على الرغم من مرور أسابيع على تفشي الوباء... (إذ أن) استخدام البلاد لتحليل البيانات الضخمة وتتبع مواقع الهواتف المحمولة ساعدا المسؤولين على احتواء انتشار الفيروس... وقد استفادت تايوان من قاعدة بيانات التأمين الصحي الوطنية الخاصة بها وأدمجتها في قاعدة بيانات الهجرة والجمارك للبدء في إنشاء قاعدة البيانات الضخمة للتحليلات"، التي ساعدتها في عمليات التحليل واستخراج النتائج.
جدوى توفر قواعد البيانات الضخمة، وفوائد تحليل محتوياتها كانت مرة أخرى حاضرة في تجربة دولة صغيرة ثانية، هي الأخرى قريبة من الصين، مصدر انتشار وباء كورونا، هي كوريا الجنوبية، التي كما يقول مقال نشره موقع "مركز البيانات للابتكار" (CENTER FOR DATA INNOVATION)، في واشنطن دي.سي، في وصفه لنجاح كوريا الجنوبية، في استخدام تقنيات معالجة البيانات الضخمة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، قائلا، "تمتلك البلاد نظامًا رقميًا متقدمًا لاستخراج البيانات الضخمة، إلى جانب الذكاء الاصطناعي... باستخدام تحليل البيانات الضخمة، وأنظمة الإنذار المسبق التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، ومنهجية المراقبة المكثفة، مكن كوريا الجنوبية بالفعل من السيطرة على وضع الفيروس التاجي في البلاد في وقت قصير... وتقوم منصة البيانات الضخمة التي تديرها الحكومة بتخزين معلومات جميع المواطنين والمواطنين الأجانب المقيمين، وتدمج جميع المنظمات الحكومية والمستشفيات والخدمات المالية ومشغلي الهاتف المحمول والخدمات الأخرى في ذلك النظام. وتستخدم كوريا الجنوبية التحليل والمعلومات والمراجع التي توفرها هذه البيانات المتكاملة، من خلال نقل جميع الاستجابات والمعلومات المختلفة في الوقت الحقيقي (Real Time) التي تنتجها المنصة على الفور إلى الأشخاص الذين لديهم تطبيقات مختلفة تعتمد على الذكاء الاصطناعي".
أما بالنسبة للصين، فتجدر الإشارة -وكما ورد على موقع (ِAnalytics Inside)- أنه "في 30 ديسمبر 2019، قامت شركة Blue Dot الناشئة في تورونتو باستخدام منصة مبنية على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والبيانات الضخمة لتتبع وتفشي تفشي الأمراض المعدية وانتشارها. وقد نبهت تلك الشركة القطاع الخاص وعملاء الحكومة حول مجموعة من حالات الالتهاب الرئوي غير العادية التي تحدث حول سوق في وهان بالصين".
وحول الصين أيضا، ودور البيانات الضخمة في محاربة تفشي وباء كورونا، جاء على موقع جامعة ستانفورد الأمريكية الإلكتروني، وتحت عنوان "العلماء يعالجون البيانات للتنبؤ بعدد الأشخاص الذين سيصابون بالفيروس التاجي"، مقالا مطولا يتحدث عن تعاون "علماء الأوبئة مع علماء البيانات لوقف انتشار الفيروس التاجي الجديد عن طريق النقر على البيانات الضخمة والتعلم الآلي.. وغيرها من الأدوات الرقمية. والهدف من ذلك هو الحصول على توقعات في الوقت الحقيقي وغيرها من المعلومات الهامة للعاملين في مجال الرعاية الصحية وصانعي السياسات العامة عندما يكشف الوباء عن نفسه. ويحاول هذا النهج، المعروف بتحليلات التفشي، تجاوز الحالات المؤكدة والوفيات لقياس العدد الإجمالي للأشخاص الذين من المحتمل أن يصابوا بفيروس - سواء ظهرت عليهم أي أعراض أم لا". وينقل المقال ذاته عن نائب الرئيس والمحلل الرئيسي في شركة Forrester Research Inc. بريان هوبكنز، أنه "إلى جانب التطورات في الطب، فإن التطورات في تكنولوجيا المعلومات والبيانات الرقمية هي الطريقة التي نهزم بها هذا الوباء ونمنع نتائج أخرى شبيهة بالإنفلونزا الإسبانية".
والإنفلونزا الإسبانية هي تلك الإنفلونزا التي تفشت في العام 1918، وأصابت، حسب الإحصاءات حينها، مات يربو على 500 مليون شخص، وذهب ضحيتها ما بين 50-100 مليون شخص. وأشارت المصادر حينها إلى أن "الغالبية العظمى من ضحايا هذا الوباء كانوا من البالغين واليافعين الأصحاء بعكس ما يحصل عادة من أن يستهدف الوباء كبار السن والأشخاص المرضى أو ضعيفي المناعة".
هذا يجعل من تقنيات البيانات الضخمة، وتلك المفتوحة منها، التي تصبح متاحة لصناع القرار "أمرًا بالغ الأهمية للقادة لاتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب لإبطاء انتشار الفيروس. لقد رأينا ذلك عندما استخدمت سنغافورة وهونغ كونغ معلومات الصحة العامة للاستجابة لحالاتهم الأولى من وباء كورونا، ووضع دولتيهما على مسار لاحتواء المرض".
لكن ما يُؤسف له أن مثل هذه البيانات الضخمة ليست متاحة للجميع، وعندما تتاح ليس الكل يحسن معالجتها.
وهذا ما يجعل الإنسان ضعيفا يتهاوى أمام خلية صغيرة تحمل فيروسا أصغر!