المعلِّم الخفي

 

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

ما هذا المعلم الجهبذ الذي تخرَّج في أحد المعامل، ثم  تسلل إلى مدينة الحياة، وانتقى مدرسة عام 2020 الميلادية ليلقي دروسه فيها، واختص نفسَه بحصة الغفلة، وصل -لدقة حجمه- دون أن ينتبه إليه أحد، ودخل خِلسة على التلاميذ ففتح باب فصل الربيع، بجسده المغطَّى بمجموعة كبيرة من العصي، وبينما كل تلميذ لاهٍ بأي شيء، وربما كل شيء، بدأ في تلقين كل من في المدرسة دروسًا شتى، فركع أمامه القوي الذي تباهى بقوته، ومضى يخترق الأرض ويناهز الجبال طولًا، ونبه الثري الذي أنساه لين الفراش ونعومته، وطيب الطعام ولذته أن جاره الفقير لا يجد قوت يومه، وعلم المتباهي بعلمه والمتزعم لكل جدال، أنَّ "فيروس" صغيرا قادرٌ على أن يشل أوصال حباله الصوتية، ووكز المهتز في شخصه، الذي يتوارى خلف أقنعة الزيف، أن للثبات أهله وخاصته، وأنه وإن اختلت الموازين يوما لحكمةٍ لا يُدركها إلا الخالق جل وعلا، لا بُد لها أن تعتدل، وصفع المتباهي بما عنده بأنه لا شيء، لا شيء نهائيا أمام عظمة الابتلاء.

يا لك من معلم خفي رغم وضوحك يا كورونا، فقد علمتنا أول الدروس أهمية، ألا وهو السكون، والإنصات إلى أهم ما رزقنا الخالق إياه، نعم فقد أجبرتنا على الإنصات إلى أرواحنا، وأن الركض في هذه الحياة لن يعطينا إلا ما قد كتب لنا من رزق في لوحنا المحفوظ، فأصبح سكون البقاء في خلوة منزلية رفيق الروح، وعندما يجن الليل أصبحت الطرقات كلها دون استثناء ساكنة هادئة، تتأمل نفسها متسائلة: أين هم سالكي؟ أين أولئك الذين لا يأبهون لجمال ستار الليل؟ هل تراهم أدركوا ذلك الجمال المخبوء في ثنايا لباس الليل؟

يا لك من مُعلِّم جميل رغم بشاعتك يا كورونا؛ لأنك أعدت لنا جماليات الحياة التي سلبتنا العصرنة والتحضر إياها، الاهتمام بكبار السن والخوف عليهم أصبح أولوية ملحة من قبل كل أفراد الأسرة، الصغير والكبير دون استثناء، ثقافة الاطلاع على كل جديد من أخبار الوطن والعالم شغلت كل أفراد البيت الواحد، وبات الإحساس بمعنى وحدة الإنسانية يطغى على جميع المجتمعات، بات الشباب يتوقون للثم جباه كبارهم وأيديهم، أصبح الدعاء رفيق اللسان والقلب، بأن يرفع الله تعالى عنا البلاء والوباء، بدأ كل من غفل يبحث عن أمان الأنس بالله، والشوق إلى بيوته زاد أواره في القلوب، ليس لمن اعتاد على ذلك وحسب، بل تعداه ليسكن قلوب السواد الأعظم.

يا لك من مُعلِّم كبير رغم صغرك يا كورونا، فبفضل عصاك اللاسعة، توقفت كل الحروب خوفا، وتجمد أزيز المدافع هلعا، وأزكمت أنوف الصراعات اختناقا، وغصت رئة النزاعات رعبا، وشلت أجساد المدن ترقبا، وتوقفت الطائرات في أوكارها صمتا، فحظرت التجوال ورفعت الترحال إلا إلى جهة واحدة، يخشاها الكل ويهرب منها.

يا لك من مُعلِّم عظيم رغم تفاهتك يا كورونا، فالإنسان أصبح -بفضل عصاك التي تركت آثارها على جميع الهياكل الضخمة اقتصاديا أو سياسيا- هو الركيزة الأولى، وقد أعدت للعالم أجمع أساليب النظافة المثلى، وقفلت أبواب المعاصي وأوكار الشيطان، وهززت بعصاك أركان تلك الهياكل المغرورة وقوضتها وأقمت هيكل العلم النافع، فعاد الجميع للبحث عن الحلول، واكتشاف الترياق الناجع، الذي نسيه العالم وضل الطريق عنه، لأنه حاد عن جادة الخير، ومضى في طريق البحث عن الشر ليسلح نفسه على نفسه، ويرسل بألوف الجثث إلى التراب، ويحظى بنعيم زائف لا وجود له، ونسي الإنسان أو تناسى أنه تعالى يحب أوبة عباده، فمن لم يأت إلى ربه بلطائف إحسانه، قيده تعالى بسلاسل امتحانه.

يا لك من مُلخِّص مُوجِز رغم كثرة تفاصيلك يا كورونا؛ لأنَّ المنهج الذي اعتمدت عليه في التدريس جاء بخلاصة مفادها أنَّ التعليم والعمل يمكن أن يتم عن بُعد، وقد يصبح أساسيا بعد أن كان مجرد أفكار للمستقبل البعيد، وهذا البعد الإجباري سيصنع معلما يعتمد على آلية التفكير خارج الصندوق من أجل نفع طلابه وتوصيل العلم إليهم، ستخرج لنا الكثير من الأعمال الجديدة تولد من رحم الحاجة، وستظهر مِهَن ووظائف لم نعرفها قبل عالم ما قبل كورونا، وسيكون الابتكار قائدَ التغيير المرحلي ومحوره، ستتصدر الخدمات اللوجستية والتوصيل (من وإلى) جميع الخدمات، وستصبح الجهات التي يمكنها إيصال الخدمة لأبعد مدى في أسرع وقت هي الأنجح، أما الرعاية الصحية فستكون في أعلى قائمة اهتمامات جميع الحكومات، ستتغير أغلب السلوكيات الإنسانية، فيما بين البشر ومع بعضهم البعض، سينصب اهتمام الحكومات على رفع مستوى الاكتفاء الذاتي القومي، وسيعاد النظر في الطاقات المستهلكة، ستتغير الجاهزية لمواجهة الكوارث في جميع الدول، وكيفية التعامل مع المخاطر في حال حدوث كارثة ما في أي بقعة على هذه المعمورة.

------------------------------------------------------

توقيع:

"وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَى أُمَمࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذنَـهُم بِالبَأۡسَاءِ وَالضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُم یَتَضَرَّعُونَ" (الأنعام: 42).