"كورونا" يهاجم اقتصاد العالم

 

عبدالنبي الشعلة

بادرتْ دول العالم التي أصابها أو زحف إليها فيروس كورونا باتخاذ إجراءات وقائية وتدابير احترازية، بدرجات متفاوتة، وكل حسب طاقاتها وإمكانياتها، للتصدي لعملية انتشار هذا الفيروس الفتاك، وقد كان أداء دول مجلس التعاون الخليجي في هذا الصدد ملحوظًا بل متميزًا، في الوقت نفسه فإن الحاجة أصبحت ملحة الآن بالنسبة لدول المجلس للشروع والمبادرة في اتخاذ إجراءات احترازية أخرى تؤدي لتدارك تبعات هذه الأزمة واحتواء الآثار والتداعيات السلبية التي بدأت تَطال النشاطات الاقتصادية وحركة التجارة؛ وذلك أسوة بعدد من دول العالم الأخرى.

ففي الولايات المتحدة، وقَّع الرئيس ترامب -قبل يومين- حزمة إنفاق طارئة بقيمة 8.3 مليار دولار لمواجهة تداعيات أزمة فيروس كورونا، وقبل ذلك بادر مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي (البنك المركزي) بتخفيض أسعار الفائدة في الأسبوع الماضي بمقدار نصف نقطة مئوية كتحرك عاجل في محاولة لمنع حدوث ركود اقتصادي، وإدراكًا من الحكومة الأمريكية بأن هذا الفيروس الشرس أصبح يشكل خطرًا متزايدًا على النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة.

ولحماية اقتصاداتها ودعم أسواقها المالية، فإنَّ كبرى البنوك المركزية في العالم قد بادرت هي الأخرى وبالفعل إلى خفض أسعار فائدة الإقراض.

وأعلن الاتحاد الأوروبي أن إيطاليا -العضو بمنطقة اليورو- ستحظى باهتمام خاص؛ لأنها تعاني من معدل دين عام مرتفع جدًّا، وهي الدولة الأشد تضررا من فيروس كورونا في أوروبا حتى الآن.

وفي بريطانيا، أكَّد بنك إنجلترا أنه من الضروري الإسراع بتقديم مساعدات للشركات التي تعطلت عملياتها بسبب مضاعفات انتشار الفيروس. أما البنك الدولي، فقد أعلن عن خطة طوارئ تبلغ قيمتها 12 مليار دولار لحماية اقتصادات الدول الفقيرة من الأخطار المحدقة.

وسيقدِّم صندوق النقد الدولي مساعدات على شكل قروض دون فائدة أو بفائدة منخفضة إلى الدول التي تضررت من الانتشار السريع للفيروس، ولهذا الغرض، فإن الصندوق سيخصص 50 مليار دولار لصرفها في إطار هذه المساعدات في أسرع وقت ممكن.

إنَّ هذه الأوضاع والتطورات تفرض على وزراء المالية والاقتصاد في دول المجلس عقد اجتماع طارئ لاستعراض أوجه معالجة الآثار السلبية التي أحدثها الفيروس وكيفية معالجتها، وتدارس مختلف الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة واتخاذ الخطوات اللازمة لمواجهتها، وتبني القرارات والإجراءات الضرورية حيالها التي تؤدي إلى التقليل من آثارها السلبية.

والمعروف أن هذا الفيروس المستشري جعل الصين هدفه الأول، وبدأ بضرب اقتصادها الذي يشكل ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ فناتجها المحلي الإجمالي يزيد على 14 تريليون دولار سنويا؛ مما يشكل 17 بالمائة من الناتج العالمي، وتُسهم بنسبة 20% في التجارة العالمية في المنتجات الوسيطة؛ كما أكدت ذلك مؤخرًا منظمة "الأونكتاد" التابعة للأمم المتحدة التي أضافت بأن الصين أصبحت خلال العقدين الماضيين "أكبر مصدِّر في العالم، وجزءا لا يتجزأ من شبكات الإنتاج العالمية"، وقد وطدت الصين مكانتها كمزود رئيسي للعديد من مدخلات ومكونات المنتجات المختلفة؛ مثل: السيارات والهواتف المحمولة والمعدات الطبية... وغيرها، وأنَّ أي انكماش في إنتاج الصين ستكون له آثار مضاعفة تظهر على مُجمل انسياب الاقتصاد العالمي، وهو ما تسبَّب حتى الآن في انخفاض يقدر بنحو 50 مليار دولار أمريكي في التجارة بين الدول.

لقد وقع الآن الاقتصاد الصيني المنطلق في مستنقع أزمة خطيرة قد تؤدي إلى فرملته أو حتى تراجعه؛ وانخفض بالفعل المعدل المتوقع للنمو الصيني في هذا العام، وتراجعت حركة الإنتاج والتصدير والاستيراد فيها؛ فالمناطق الصينية التي تضررت وتعرقلت فيها عمليات الإنتاج أو توقفت تمثل 50 % من الناتج المحلي الإجمالي حسب ما أكدته مؤسسة "أوكسفورد إيكونومكس للتحليلات الاقتصادية"، واستمر عدد الضحايا في الارتفاع، وتكبدت سوق الأوراق المالية فيها خسائر غير مسبوقة بلغت مئات المليارات من الدولارات، كما أنَّ البنك المركزي الصيني كان قد رصد مبلغ 173 مليار دولار لجهود محاربة الفيروس.

ولأن الصين كما ذكرنا هي أكبر مُصدر في العالم؛ فإن الاقتصاد العالمي وحركة التجارة الدولية قد بدأت تتأثر سلبًا دون أدنى شك، وإن ما تعانيه الصين بدأ يلقي بظلاله وتداعياته على الاقتصاد العالمي برمته، وبذلك تغيرت المقولة المأثورة لتصبح "إذا عطست الصين (وليس أمريكا) فإن العالم كله يصاب بالسهر والحمى" وتتأكد بذلك أيضًا صحة شعار "العولمة الاقتصادية".

إنَّ الارتباطَ الوثيقَ بين الاقتصاد العالمي والاقتصاد الصيني قد جعل أي هزات أو أزمات يتعرَّض لها الأخير تؤدي دون شك إلى إحداث ارتدادات وتبعات عالمية سلبية خطيرة؛ وبالفعل فقد ارتجت حركة انسياب الاقتصاد العالمي واهتزت سلاسل التوريد والإمدادات العالمية وخطوط النقل وشبكات الاتصال في العالم.

إنَّ الانتشار السريع للفيروس أثار الرعب في المجتمعات وحرك العامل النفسي؛ فسيطرت على أسواق العالم حالة من الارتباك والخوف والقلق والتردد؛ مما أدى بالنتيجة إلى الإحجام عن الإنفاق وتوقف تدفق الاستثمارات وتراجع أسواق البورصة وانخفاض أسعار النفط.

وقد بدأت بالفعل أسواق المال في العالم تتكبد خسائر فادحة؛ فخلال أسبوع واحد فقط -على سبيل المثال- خسرت أسواق المال الأمريكية 3.1 تريليون دولار، وانخفضت أسعار النفط وتراجع حجم التجارة العالمية.

وإذا لم تتكاتف جهود الأسرة الدولية وتتمكَّن من السيطرة على هذا المارد الفتاك، وإذا استمرت تداعياته في التفاقم فإنَّ العالم كله سينزلق إلى هاوية الركود الاقتصادي، وما يعنيه ذلك من تتابع وترابط بين انكماش في النمو الاقتصادي وتراجع في المبيعات وضعف في مستوى الإنفاق وارتفاع في معدلات البطالة... وغيرها.

ولا يُمكن لدول مجلس التعاون أن تكون في مأمن أو بمنأى عن هذه التطورات والارتدادات والمخاطر؛ بل على العكس من ذلك، فقد نجد أنفسنا على رأس قائمة المتضررين.

وقد بدأنا نتحمَّل التكاليف الباهظة لإجراءات وتدابير مقاومة واحتواء الفيروس، وبدأ الضرر يلحق بقطاعات أساسية في الاقتصاد؛ مثل: القطاع المالي والسياحي وحركة السفر والطيران والفندقة ونشاطات وفعاليات اقتصادية مختلفة، وألغيت الكثير من المعارض والمؤتمرات.

وقد بدأت أسعار النفط في التراجع بمعدلات مقلقة؛ وهو الأمر الذي سيؤدي بالنتيجة لانخفاض مداخيل دول المجلس، إضافة إلى أن الطلب على النفط سيتراجع من حيث الكمية.

من ناحية أخرى، فقد أصبح للشركات الصينية مساهمة وحضور محسوس ومتنامٍ في مشاريع البنية الأساسية والصناعية في دول المجلس، والتي تتم من خلال عقود حكومية وقروض واستثمارات مشتركة؛ مما قد يؤدي لعرقلة تنفيذها.

وستتأثر الحركة التجارية في دول المجلس بعد أن أصبحت وارداتنا من الصين تشكل ما بين 15 إلى 18% من جملة وارداتنا، وسينخفض حجم صادراتنا للصين، التي تنحصر تقريبًا في النفط والغاز ومنتجاتهما، خصوصًا بالنسبة للمملكة العربية السعودية الشقيقة التي وصلت صادراتها النفطية إلى السوق الصينية إلى مليون برميل يوميا أو أكثر، وأصبحت الصين تستحوذ على 15% من حجم الصادرات السعودية.

لكل ذلك، وبكل وضوح، وكما ذكرنا فإنَّ الدعوة تصبح أكثر إلحاحًا لعقد اجتماع طارئ لوزراء المالية والاقتصاد في دول المجلس لاستعراض أوجه معالجة الآثار السلبية التي أحدثها الفيروس وكيفية معالجتها، وتدارس مختلف الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة واتخاذ الخطوات اللازمة لمواجهتها، وتبني القرارات والإجراءات الضرورية حيالها التي تؤدي للتقليل من آثارها السلبية.