التقمص ومراوغة الذات

 

ثريا اليحمدي

 

لم أكن أؤمن بالتقمص حتى شاركتني إحدى الزميلات معاناتها مع أحد  أقربائها بأنّه يتقمص شخصيات المشاهير خصوصاً الشخصيات الكورية (الفرقة الغنائية BTS) حيث إنّه مغرم بهم، ويستنسخ طباعهم، طريقة حديثهم وإيماءاتهم ويبحث بحثاً جَارِفا في حياتهم ليعرف ماضيهم، عاداتهم السيئة، أسلوب حياتهم المخالفة للدين الإسلامي (من منظوري الشخصي) ويقتدي ببعض عباراتهم لدرجة أنه قام بتكريس وقت للبحث في (دياناتهم) وأصولهم بالرغم من أنّ عمره لا يتجاوز ١١ عاماً، فعندما ينحرف الأبناء في سن كهذا فكيف ستتم إعادتهم إلى الطريق السّوي مجدداً! فالتأثر في سن مبكر هو الأشد تأثيراً على العقل، فهذا التقمص لم يقتصر على الذكور بل امتد مقدماً للإناث مع ما ذكر ذاته، فهذا التقمص يكاد يقودهم للعبودية والهيمنة مما قد يسيطر على أبناء عمان، ويعكس تيار طاقاتهم ونشاطهم الفكري في أنشطة هلامية تقوم بتزويق شخصية بائسة.

كذلك انخراط ثلة ممّن تعدّوا مرحلة الطفولة في تقمص شخصيات استعراضية في المعرفة والفلسفة فقد لفتني موقف بصحبة فتاة في أحد التجمعات بأنها تقتني الكتب الكثيرة ليس لقراءتها بل كي يقال أنّها مثقفة ومُطّلعة؛ أي أنها تنتظر إعجاب وثناء الآخر على عدد الكتب العائمة في الحقيبة. أيضاً هناك متقمصون محترفون يقومون باختلاق الوداعة فيما يوقعون بعض الأفراد في تشابكات ومعاضل عن طريق تزويق النفاق بينهم.

خلق الله الإنسان وأكرمه وأحسن خلقه وميزه عن سائر المخلوقات فجعل منه الذكر والأنثى، الأبيض والأسود، الطويل والقصير.. وأكرمه إكراماً عظيما حيث أعطاه العقل الذي يستطيع من خلاله التفريق بين الخبيث والطيب كي يتعايش على هذا الكون على ما يرضي جلال وجهه الكريم.

لكن طائفة من الناس انخرطت في ركب الحداثة بصوره تهكّمية مما أدى إلى انحرافهم عن الطبيعة الوجدانية التي خلقوا بها ومقارنة ذواتهم بالغير؛ مما يوحي أنهم رافضون لما هم عليه.

وهذا المقال يتناول قضية اجتماعية ونفسية (التقمص) فهذه الطفرة هي حراك نفسي يقوم الشخص سواء رجل أو امرأة بمراوغة الحقيقة من خلال انتحال صفات يمتلكها الغير والتماهي بها حيث يقوم بتجسيدها في ذاته كي تطابق شخصية المُقتدى به أو الشخصية المستهدفة حتى يكاد أن يكون نموذجا مستنسخا منه، وهذا قد يكون انتحالا كليا أو جزئيا على قدر رغبة الإناء المُنتحِل.

ويحدث التقمص بسبب تأثر الشخص وانبهاره بشخصية محددة فيجاري أساليب الشخصية المستهدفة ويُحاكي تصرفاتها مُتصنعاً، حتى تترسخ في نفسه مما يُلغي ويُهشّم الذات الطبيعية لشخص بقدر ما رسخ بها من أفكار مُخالفة عن ميول ذاته الحقيقية مُتوهما أنّ فعلاً كهذاً يخلق له كيانا واحتراماً وشخصية في وسط محيطه (الأسرة أو المجتمع) لذلك يتوهم القوة عند محاكاة أفعال وشخصيات الغير التي تتشكل في عدة صور: تقمص أسلوب الحديث والحوار، نبرة الصوت والإيماءات، طريقه اللبس أيضاً ينطلي على ذلك تقمص الشعور، بعض الاهتمامات وغيرها. فالشخص الذي يقوم باللجوء إلى هذه الوسيلة ليجذب اهتمام الأفراد الآخرين يكون شخصاً فارغاً من تقدير ذاته، فاقداً هويته، ركيك المبادئ وانعدام قناعته بنفسه وبما يملك مما يُسهّل تلاطمه في دوامة من الادعاءات وبحر من الزيف؛ ما يؤدي إلى انصهار شخصيته اختباءً خلف شخصية الغير. فالمتقمص ليس سوى مسخ منخرط في الأحلام العبيطة والعقل الذي عنده بمثابة منجم فحم لا أكثر.

المتقمص يفقد تركيزه في شؤونه الشخصية لأنه يسكب كل إمكانياته لمراقبة أفعال الآخرين والاقتداء بها.  وهذا ما يجعل حياته فوضوية مليئة بالفشل، الإحباط النفسي وانعدام الرأي فالشخصيات الحقيقية تُلمح من أول حوار، والشخصيات المهزوزة تكشف أيضاً فلا تقمص ولا تصنّع يدوم طويلاً فعندما تعم الضبابية في السلوك تخلق تصارع فكرياً في عقلية المنتحل مما يؤدي إلى عدم التوازن الظاهري فسرعان ما يكتشف الآخرون أصالته إن كان ماكراً، كاذباً أو مدعياً العلم والثقافة، رُبما قد تُبهر الأفراد يوماً لكن في نهاية الأمر تسقط الأقنعة وترهق الروح الإنسانية في زوايا الخوف الدائم في إرضاء الناس وتأييد الغير. فالخوف هو الحجر الفاصل بين النجاح والفشل. ممارسة التقمص يدل على شعور الشخص بالدونية فيصنع هذه الشخصية الحربائية لينال مراد بعيداً عن واقعه. فالنجاحات النقية لها جذور لكن في حالته يصيّرها شكلاً خارجياً أمام الآخر، والمحتوى ليس سوى قالب فارغ فعدم احترام الذات، وعدم الرضا عنها، واستحقارها أحياناً، والطمع في الغير، يقود إلى هذا الهذيان الطفولي أو (المراهقة المتأخرة).

لكل شخصية كيان؛ فالمتقمص يلغي كيانه الذاتي بهذه الحيلة الرخيصة التي قد تصنف احتيال أخلاقياً على الأفراد يقول ابن الأعرابي: (آخر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد) فعلى الإنسان مراقبة ذاته ومحاسبة نفسه قبل أن يحاسب، وعليه أن يكون صادقاً نقياً بعيداً عن الغش والتمثيل.

لكي تستقل الشخصية يجب أن يحمي الشخص نفسه بقناعته ويرسم ملامح شخصيته وطموحاته وأن يسعى في تكوين ذاته بما يليق بها ويتناسب مع معتقده وأحلامه. كما على الإنسان أن يبالغ في تقدير ذاته احتراماً لها مخلصاً في عمله جاعلاً نصب عينيه الهدف المراد تحقيقه، فرسم الهدف يصنع أولى خطوات المستقبل ويخلق الدافع والاستقرار النفسي لذات الفرد. وفقاً لهذا يجب على الإنسان أن يقدر قيمة نفسه مهما واجه من صعوبات وعوائق، كذلك لكل نفس حياة وحياتك لها فَضاؤُها الذاتي وتسلسلها الذي من خلاله يأتي منطلق الحكم والقرار.

تعليق عبر الفيس بوك