النزاهة.. لتقويض تحركات الفساد

 

عبد الله العليان

منذ خمسين عاماً من عُمر النهضة العُمانية الحديثة، حققت بلادنا مكاسب كبيرة وكثيرة على كل المستويات، وهذه المكتسبات تمثل أهم أوجه النهضة التي لا تخطئها العين، من طرق وموانئ ومطارات، وبنية تحتية مهمة، وحراكاً ثقافياً وفكرياً من كل الأجيال، وإعادة طباعة الكثير من التراث الثقافي الوطني، من أجل إنعاش الذاكرة والهوية الوطنية العُمانية، بما أنجزه الأجداد، عبر التاريخ التليد، إلى جانب المنجزات الأخرى التي أصبحت منارات كبيرة للعلم والثقافة والتربية، ألا وهي الجامعات، والكليات والمعاهد العليا، في كل مُحافظات بلادنا، إلى جانب الجوائز الكبيرة الفكرية والثقافية المحفزة لتفكير الطاقات الإبداعية لهذا الجيل الذي عاصر هذه النهضة وتفاعل معها.

لكن ما تمَّ تحقيقه وإنجازه، لا يعني التوقف أو الجمود عند هذه المنجزات، بل لابد من مواصلة مسيرة النماء والتقدم، بصورة حثيثة وجادة وقوية، على كل المستويات، لكنها تتطلب مع ما تمَّ ويتم بالإخلاص لمن يتم تكليفه من مهام وأعمال ضمن المسيرة المقبلة، من حيث القدرة التخطيطية، والشفافية المطلوبة، وتقديم المصلحة الوطنية، فوق أية اعتبارات أخرى، ليتحقق البناء والنماء على أسس سليمة وصحيحة، وتتميز بالدقة والشفافية، التي تتطلبها احتياجات بلادنا في هذه المرحلة المقبلة، والتي هي أقرب للتحدي، بسبب الظروف التي نعرفها جميعاً، من أجل السير، دون أية مثبطات أو عراقيل، أو مصالح خاصة، لتنضبط معها هذه المسيرة بصورة جلية وناصعة وتسير في طريقها بنجاح، ولذلك فقد أوضح جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في خطابه المهم، في محددات واضحة المعالم، بالعزم على مواصلة جهود التنمية الحقة التي تتطلبها هذه المرحلة، والبناء اللازم لكل المجالات التي تحتاجها التنمية، ومراجعة النظم الإدارية القائمة، في جهاز الدولة، مع تلازم هذه الأهداف، مع ضرورة وضع الضوابط اللازمة، من تحديد ومُراقبة ما يتم تحقيقه في هذه المهام والتكليفات، كالنزاهة، والمحاسبة، والمساءلة.

وهذه بلا شك تشكل صمام الأمان في هذه المسيرة المباركة، وهو ما عبَّر عنه جلالته، في هذا الخطاب بقوله: "ومن أجل توفير الأسباب الداعمة؛ لتحقيق أهدافنا المستقبلية فإننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئه وتبني أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها، وسنعمل على مراجعة أعمال الشركات الحكومية مراجعة شاملة بهدف تطوير أدائها ورفع كفاءتها وتمكينها من الإسهام الفاعل في المنظومة الاقتصادية، وسنهتم بدراسة آليات صنع القرار الحكومي بهدف تطويرها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا، وسنولي هذه الجوانب كل العناية والمتابعة والدعم".

الحقيقة أنَّ ما قاله جلالته- حفظه الله- في هذا الخطاب، لا يحتاج إلى مذكرة إيضاحية للشرح، كالتي يتم شرحها أو تفسيرها للقوانين التي تصدر، فهي رسالة واضحة وجادة، لمن يود أن يقرأ بين السطور، ومن هنا لاقى خطاب جلالته، ارتياحاً كبيراً من المواطنين والمهتمين من المحللين، وحتى من خارج السلطنة بالشؤون العمانية، لكونه لامس مشاعرهم ووجدانهم، ولأن الظروف بحق تتطلب المراجعة، وتجديد الوسائل والطرق، بعد خمسين عاماً من عمر نهضتنا الحديثة.

لا شك أنَّ قضية الإخلاص، والالتزام بالنزاهة، والشفافية في عمل المؤسسات الإدارية والفنية، مع وضع الضوابط اللازمة لما يتم عمله، كالمحاسبة، والمساءلة وتطبيق القوانين الصارمة التي تستلزمها تلك الضوابط، تُعد بلا شك أهم مقومات محاربة الفساد ومحاصرته، وتقويض تحركاته، سواء المنظم أو الفردي، وقد كتبت في مناسبة سابقة عن مخاطر الفساد، وآثاره الكبيرة، وهذا يحدث في غياب النزاهة، وقلت ما نصه: "إن الفساد كما هو معروف عن تحركاته وأساليبه متعدد الطرق والوسائل، بحيث لا تكون له صفة واحدة ثابتة في تحركاته الخفية، لكن أهم  أخطاره هو ما يسمى بـ(الفساد الكبير)، الذي  يعشعش على مستويات أكبر في مجالات كثيرة ومُتعددة، بهدف الحصول على المنافع الضخمة، من خلال الممارسات الاستغلالية غير النزيهة في الاقتصاد أو التجارة، أو المناقصات المالية أو غيرها من الوسائل والطرق غير النزيهة والتي تعد ممارسات فاسدة بحسب ما هو معروف ومحدد في أنظمة مكافحة الفساد".

ومن هذه المنطلقات المهمة في تحقيق النزهة ومحاربة الفساد وتقويض أسسه وأساليبه وطرقه، أهمية تطوير وتجديد الكثير من السياسات التي تسّير قطاعات الدولة المختلفة، بما يضمن سلامة الأداء، ومتطلبات النزاهة، ومصداقية الممارسة الصحيحة في العمل المالي والإداري والقانوني، إلى جانب إيجاد النظم واللوائح التي تضمن الشفافية والمحاسبة والمساءلة، وفق ما أشار إليه الخطاب السامي لجلالته- حفظه الله- والتي سوف تسهم بلا شك في تقييد الفساد، والمحسوبية، والمحاباة، واستغلال النفوذ، ومن خلال الممانعة القانونية التي تحجم وتحد من تحركه وتغلغله، وهذا ما نتوقعه، مع مراجعة وتجديد النظم والقوانين والتشريعات المقبلة.