"إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ"

 

أنيسة الهوتية

رحم الله روح "مريمتي" التي لم أر في سعة صدرها، وسماحة وجهها، وفصاحة قولها، وطلاقة لسانها غيرها، وما رأيت طبعها يتبدل مع الظروف والشدائد، فقد كانت بذات الطبع في الشدة والرخاء، مليئة بالحب والحنان والتفاهم والتفاؤل والعدل مع الجميع، والتي بيمينها - الذي لازلت أشتاق إلى تقبيله كما كنت أفعل كل يوم - على ورقة بيضاء أخذتها من كراسة رسم أخي وبأقلامه الملونة كتبت الآية 6 من سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) صدق الله العظيم.

وزينته بشرائط جميلة صنعتها بنفسها من الأقمشة الوردية التي كانت تخيط منها أثواباً لي ولأخواتي الصغيرات بماكينة الخياطة السوداء - التي لازلت أذكر الفراشة الذهبية عليها- ودقت مسماراً على جدار الصالة مُقابل مدخل الضيوف ثم علقته في تلك البقعة.

ولم أفهم معنى الآية في وقتها، رغم تكرار قراءتي يومياً، ولم يراودني الفضول كعادتي الدائمة! فقد كنت مُكتفية بقدسية الآية وحبي لتلك اللوحة، لأنَّ من كتبتها هي أمي. وهذا الشعور زرع بداخلي قناعةً وإيماناً بأنها قد اختارت هذه الآية من بين آلاف الآيات الموجودة في القرآن الكريم لمقصد، واختارت هذه البقعة لتعلقها أيضاً لمقصد، وإن لم أعلمه أنا إلا أنها هي تعلمه ولها فيه مأرب خير..واليوم تلك اللوحة، وذلك الجدار وأمي ليسوا موجودين سوى في ذاكرتي البعيدة، إلا أنني قد استوعبت وفهمت أخيراً سبب اختيارها لتلك الآية ووضعها في تلك البقعة من البيت.

ومن هذه الأحداث أستيقن أنَّ الحكمة موجودة بيننا في كل تفاصيلنا، فقط علينا النظر إليها بعين مفتوحة. وقد كانت الحكمة هنا، أنَّ على الإنسان التحري والتأكد من صحة الخبر حين يصل إليه وخاصة في مجالس "السوالف"، وألا يدع ردة الفعل الأدرينالية تتحكم في تصرفاته وردات فعله الارتجالية حتى لا يقع لاحقا قيد الندم، ويختلف ندمٌ عن ندم وأيضاً الفاسق المذكور في الآية الكريمة، ليس دائمًا شخص آخر بل من المُمكن أن يكون "أنت" نفسك، فلا نستبعد أن يخوننا سمعنا وبصرنا، فمخارج الحروف تتشابه، ومداخل السمع تختلط والأحجام والمسافات تختلف باختلاف زاوية النظر، فانتبه لزاوية نظرك! وصحة سمعك، ولا تكن عبارة نقل للأقاويل فقط لتكون زينة للمجالس، ولا تكن فتيل نار الفتنة أو شرارتها.

تريث قبل القول والفعل فقد تنقذ أرواحاً من الحريق.

فكما يحصل التشويش في إرسال موجات الراديو، التلفزيون، والواي فاي، هناك نوع من التشويش الحِسي يحصل فجأة في عقل الإنسان ويتسبب له بقلة التركيز الذي يُؤدي إلى تشويش الاستماع الدقيق والرؤية الدقيقة خاصة حين الغضب، قلة النوم، الجوع، والغيرة.

أما زوايا النظر فهي فتنة البصر، ولن أنسى حكاية المرأة التي طلقها زوجها لأنَّه رآها ملاصقة لزوج أخته في إحدى الصور العائلية، والواقع أنَّه كان وراءها بمسافة نصف متر وأكثر!!

وبعض الأخطاء لاتُغفَر، والعلاقات التي تُكسر لربما لن تُجبر، وإن لم نستطع لجم أفواه السفهاء إلا أنه باستطاعتنا لجم أفواهنا، أفكارنا، أنفسنا، ردات فعلنا، وأقوالنا، بالحكمة والموعظة الحسنة.

 فحضور العقل قوة، وغيابه ضعف وبلاء، والفتنة أشد من القتل.