"طالبان" بين زمنين

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

سادت المُفاوضات الأمريكية مع حركة طالبان والتي انتهت بتوقيع اتفاق الدوحة بينهما، المشهد السياسي والإعلامي مؤخرًا كونها أول مفاوضات في التاريخ بين قوة عظمى وحركة مُسلحة في دولة ذات حكومة ودستور ومعترف بها دوليًا.

فمن المعروف أنَّ حركة طالبان في الأساس هي حركة إسلام سياسي استنبتتها المخابرات الأمريكية/ البريطانية/ الباكستانية إضافة إلى مخابرات عربية خليجية، في "كويتا" عاصمة إقليم بلوشستان في السنوات الأخيرة من عمر ما سمي بـ"الجهاد الأفغاني" ضد الوجود السوفيتي، بقصد تمكينها من حكم أفغانستان لاحقًا في أول فرصة تلوح لذلك. وحركة "طالبان" أخذت تسميتها من كلمة طلاب العلوم الشرعية باللغة البشتونية وهي عكس كلمة "عالمان" أي علماء الشريعة، والقصد من التسمية وتصغير حامليها هو عدم استفزاز كبار العلماء المعروفين في كابول والمشهود لهم في المجتمع الأفغاني بالعلم والحظوة الدينية والقبول، والتغلغل بيسر في المجتمع.

كانت المهمة الموكولة لحركة طالبان تتمثل في الآتي:

•    إعادة إنتاج إسلام ظلامي مُتخلف يُبطل مفعول وجذوة وآثار "الجهاد" الأفغاني في أفغانستان والوطن العربي والجمهوريات السوفيتية المسلمة والمتعطشة للإسلام بعد طول تغييب قسري عنه.

•    التخلص والقضاء على رموز "الجهاد" الأفغاني المعروفين.

•    محاصرة إيران من الشرق وتهديد أمنها واستقرارها.

•    التضييق على الشيعة الأفغان ومُحاربة وتقليم النفوذ الإيراني بأفغانستان.

وقامت حركة طالبان بتنفيذ هذه الأجندة فقرة فقرة طيلة سنوات حكمها الأربع لأفغانستان، وفور سيطرتها على العاصمة الأفغانية كابول وبعد تمكنها من طرد قوات الزعيم أحمد شاه مسعود آخر مقاوم ومدافع عن العاصمة في وجه طالبان، قامت الحركة باقتحام القنصلية الإيرانية وقامت بذبح 12 دبلوماسيا إيرانيًا في رسالة واضحة وجلية لإيران وفي نجابة واضحة وجلية لرعاتها. وكان عام 2001م عامًا فاصلاً ومفصليًا في تاريخ الدلال والرعاية الأمريكية للحركة؛ حيث وظفت أمريكا أحداث برجي التجارة العالمية في نيويورك كذريعة لغزو أفغانستان والتنكيل بطالبان حليفة الأمس وصنيعتها.

وهدفت أمريكا من غزو أفغانستان إلى تحقيق جملة من المكاسب منها، التواجد والتموضع في خواصر كل من "روسيا البوتينية"، والصين والعدو التقليدي إيران، ونهب ثروات أفغانستان الطبيعية، وإعادة إنتاج طالبان أخرى ولمهام قادمة.

وأجبرت الظروف الموضوعية والنضج السياسي ومقتضيات التاريخ والجغرافيا والثقافة حركة طالبان إلى التحالف الخفي مع إيران، والتصالح مع الأرض والساكنين بجميع أطيافهم، وبرغم تمكين أمريكا لحلفائها من الحكم بكابول إلا أن أمر حركة طالبان ونشاطها بقي مقلقًا للوجود الأمريكي وحلفائه الإقليميين ومخططاتهم عبر أفغانستان، حيث تحولت أفغانستان إلى عش دبابير ومستنقع للأمريكي بفعل حصول كل من له ثأر ومصلحة ضد أمريكا على دعم حركة طالبان.

وحرص أمريكا على التفاوض مع حركة طالبان اليوم في ظل وجود حكومة شرعية في كابول حليفة لها وصنيعتها، يُثير الكثير من التساؤلات، حيث لا يُمكن القبول بذريعة تطلع أمريكا وسعيها لاستقرار أفغانستان فحسب دون التعرض لقراءات واستنتاجات أخرى، خاصة وأن الاتفاق تضمن صراحة خروج القوات الأمريكية وانسحابها التام من أراضي أفغانستان.

وأخطر وأجلى رسالة تلقاها الأمريكان مؤخرًا، هي عملية رصد واغتيال خبرائهم الأمنيين باستهداف طائرتهم بصاروخ وعلى أرض أفغانستان ومن مناطق تسيطر عليها طالبان !!فأمريكا تعلم جيدًا معنى هذه الرسالة ومن يقف خلفها من الخصوم التقليديين لها في المنطقة، وأدركت أنّ قواعد اللعبة والاشتباك والمصالح قد تغيرت في غير صالحها وإلى حد كبير. وأن عليها العمل على تقوية والحفاظ على أوراق جديدة قديمة في المنطقة لتعزيز نفوذها المتهالك، وترميم تحالفاتها المتصدعة، وتغيير سلوكاتها التي عفا عليها الزمن.

فطالبان اليوم لم تعد ولن تعود طالبان الأمس، فمقتضيات السياسة العميقة تقتضي منها وتفرض عليها الخضوع التام والرضوخ لسنن التاريخ والجغرافيا والجوار الحيوي قبل كل شيء، وقبل التفكير في أي مصلحة أو تحالف خارج دائرة الإقليم.

قبل اللقاء: يقول الكاتب د. سمير أمين في مقاله: الإسلام السياسي الوجه الآخر للرأسمالية المتوحشة:

لقد جرى اختراع الإسلام السياسي الحديث في الهند على يد المستشرقين لخدمة السلطة البريطانية، ثم تبناه وبشَّر به أبو الأعلى المودودي الباكستاني بكامله. وكان الهدف هو "إثبات أنَّ المسلم المؤمن بالإسلام لا يستطيع العيش في دولة غير إسلامية- وبذلك كانوا يمهدون لتقسيم البلاد- لأنَّ الإسلام لا يعترف بالفصل بين الدين والدولة حسب زعمهم. وهكذا تبنى أبو العلاء المودودي فكرة الحاكمية لله (ولاية الفقيه؟!)، رافضاً فكرة المواطن الذي يسن التشريعات لنفسه، وأنَّ الدولة عليها أن تطبق القانون الساري للأبد "الشريعة". والإسلام السياسي يرفض فكرة الحداثة المحرّرة، ويرفض مبدأ الديمقراطية ذاته؛ أي حق المجتمع في بناء مستقبله عن طريق حريته في سن التشريعات. أما مبدأ الشورى الذي يدعي الإسلام السياسي أنه الشكل الإسلامي للديمقراطية، فهو ليس كذلك، لأنه مقيد بتحريم الإبداع؛ حيث لا يقبل إلا بتفسير التقاليد "الاجتهاد"، فالشورى لا تتجاوز أياً من أشكال الاستشارة التي وجدت في مجتمعات ما قبل الحداثة، أي ما قبل الديمقراطية.

وبالشكر تدوم النعم..