العهدُ الجديد

1- إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة

د. صالح الفهدي

 

أسَّس الخطاب السَّامي لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- مبادئ أساسيَّة للمرحلةِ المقبلةِ من عمر التطوير التنموي في الدولة، ولا شكَّ أنَّ كلَّ مفصلٍ من مفاصلِ الخطاب السَّامي يحتاجُ إلى مساحةٍ واسعةٍ من الإثراءِ، والتعميقِ، والسَّبرِ في معانيهِ، وأبعادهِ، وأثرهِ، بيدَ أنَّ أهمَّ مبدأ تبوَّأ الصدارةَ في الخطاب التأسيسي الأول هو "إعادة هيكلة الجهاز الإداري"، هذا الخطاب سيحفظهُ التاريخ، كأوَّل بيانٍ عمليِّ يرسمُ ملامحَ الطريق نحو المرحلة القادمة، ويكشفُ عن مدى رؤيته لمقتضيات الراهن والمستقبل وما يتوجبُ عمله من أجل تقوية العماد الأساسي للدولة وهي الحكومة.

وحيثُ إنَّ الخطاب السَّامي قد تضمَّن عناوين كبيرة، يحتاجُ كل عنوانٍ منها إلى إفرادِ مساحةٍ واسعةٍ، فإنني هنا سأركِّز الحديث غالباً على الفعل الأكبر وهو "إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة" وأمرٌ كهذا ليس من السَّهلِ التصدِّي له، فهو بحاجة إلى غربلة شاملة، ومُراجعة عامة، وتقييم كلِّي للهيكلِ الحالي الذي كنتُ قد أشرتُ إلى أهمية القيام به في شهر أبريل من العام المنصرم في صفحات (الرؤية) بعنوان "إعادة هيكلة الجهاز الحكومي" فقد أصبحت الحكومة مثقلة بالأعباءِ التي ترزحُ تحتها بسبب التمدُّد المؤسسي، والتراكم البشري، حتى أصبحت غير قادرة على التحرُّك في عالم أبرز سماته العصرية: السرعة، المرونة، الخفَّة، اقتناص الفرص، الابتكار، الإبداع .. وكلَّ هذه السمات تحتاجُ إلى ما يسمَّى بالتنظيم المسطح (Flat organization)  وهو النمط الحديث من الهياكل التنظيمية التي تتميَّز بوجود "مستويات قليلة أو عدم وجود مستويات من الإدارة المتداخلة بين الموظفين والمديرين. وتتمثل الفكرة في أن العمال سيكونون أكثر إنتاجية عندما يكونون مشاركين بشكل مباشر أكثر في عملية صنع القرار بدلاً من خضوعهم للإشراف من قِبل العديد من مستويات الإدارة". وهذا ما أشار له الخطابُ السَّامي في جزئية صنع القرار الذي يرتبطُ بإعادة الهيكلة للجهاز الإداري.

إنَّ لدينا اليومَ في جهازنا الإداري كثيراً من الوزارات التي أصبحت تعملُ في مجالاتٍ معينةٍ مما أثَّر على التخصيص الممارس لتشعُّبه بين أكثر من جهة، ولدينا اليوم مؤسسات تتداخل أعمالها في بعضها البعض فلا يُعرفُ من الجهة المسؤولة تحديداً..! ووزارات تعمل بصورة مستقلة دون تناغم مع جهات أخرى، بينما يفترض بالجهاز الحكومي أن يكون وحدةً متناغمةً، تعملُ في سياقاتٍ واضحة، ووفقَ خططٍ واضحة.. أمَّا أن يتخذَ هذا الوزيرُ قراراً، يناقضه الوزير الآخر في الإجراءات التي يعتمدها فذلك يدلُّ على عدم وجود هرمونية في الأداء الحكومي.

هناك من الوزارات ما تم إخراج هيئات من جوفها بقصدِ تطوير الأداءِ –وربما توفير الموازنات- لكن الذي حدث هو العكس فقد ارتفعت الموازنات المالية إلى أضعاف ما كان يصرف عليها، وزاد عدد المسؤولين الكبار في كلا الكيانين، والضحايا في ذلك هي: الأداء، والجودة، والتنافسية، والكفاءة..!! وهناك أيضاً الشركات الحكومية التي تناسلت شركات وتفرعت مجالس إدارات.. وأصبحت هي ذاتها كيانات ضخمة ما أثر على أدائها العام.

ولا شك أن أعمالاً عظيمة تقع تحت هذا العنوان الكبير "إعادة هيكلة الجهاز الإداري" كإلغاءِ وزارات، ودمج أُخرى، وتقليص حجم هيئات، أو إلغائها.. فكلَّما كان الهيكل الإداري للحكومة بسيطاً، وقليل المؤسسات، ارتفع مستوى الفاعلية في أدائه، والجودة في إنجازه.

ولا شكَّ أنَّ الخطاب السَّامي قد ربطَ عملية "إعادة هيكلة الجهاز الإداري" بعناصر ذات أهمية قصوى وهي: توجيه الموارد نحو الوجه الأمثل لخفض المديونية وزيادة الدخل، وهذا يتطلَّب اتخاذ قرارات شجاعةٍ وحازمة لكنها حتمية؛ إذ إن بعض المؤسسات تستنزف ثروات البلاد دون أن تُقدِّم شيئاً ملحوظاً لتنمية الوطن، في حين أن توفير موازناتها أو توجيهها إلى وجهةٍ أمثل هو الحلُّ الأجدى والأنفع. الأمر الآخر أنَّ "إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة" يتطلب مُراجعة القوانين والتشريعات التي تحتاجُ إلى عقولٍ عصرية منفتحة تستطيع أن تراجعها ببصيرةٍ حصيفة لتخرجها من الجمود إلى السيولة، ومن حالة اليبوسة إلى حالة الاخضرار بل وسرعة الإثمار. إن نجاح إعادة هيكلة الجهاز الإداري ترتبطُ بإعادة النظر في القوانين والتشريعات، وأيضاً بالنزاهةِ والمحاسبة للقضاءِ على الفسادِ الذي تغوَّل في بعض مفاصل الجهاز الإداري للدولة، وظهر في أشكالٍ مختلفة..!

وفي هذا النطاق هناك أسئلة لابدَّ من وضعها للمساعدةِ في تحديد نوعية التغيير، ومن تلك الأسئلة:

-     ما هو عمل الوحدة، واختصاصاتها؟ وهل هذا العملُ جوهري أم تكميلي؟

-     هل العمل الذي تقوم به الوحدة تقومُ به وحدة أُخرى؟

-     هل هناك فعلاً حاجة ماسَّة وواقعية لوجود هذه الوحدة أو هذا الكيان؟ وإن كان كذلك، هل يمكن تقليص العمل أم أن العمل يحتاج إلى توسعة وإضافة صلاحيات واختصاصات أوسع؟

-     هل يمكن دمج عدد من الوحدات التي تتشابه في اختصاصاتها، وتقليص الموازنات، أم أنَّ الموازنات سترتفع؟ ما هي جدوى الاندماج إذن؟

-     هل يمكن الاستفادة من القوى البشرية المعطلة في الجهاز الحكومي وذلك بإجراء عمليات نقل إلى وحدات خدمية، أو إلى شركات، أو مصانع تابعة للحكومة بعد إعادة تأهيلها؟

أسئلة كهذه لابد وأن تُطرح في عملية إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، سعياً للاستفادة من هذه الفرصة التاريخية في إعادة تصويب المسارات الخاصة بالحكومة لرفع مستوى الكفاءة، ومعيار التنافسية والجودة بعد الثلث الأول من القرن الواحد والعشرين.