محطات: الجوهرة السوداء الأولى!!

المعتصم البوسعيدي

ولدَ فقيراً وحيداً ومات فقيراً وحيدا، بعثرته قسوة الأيام وطوته صفحات النسيان، ولم تشفع له كل الحكايات الأسطورية، فغاصَ مسمار النجارةِ في خشبتهِ الطفولية، وفاحت من جسدهِ رائحةِ العرق "البترولية"، وضاقت عليه المدرسة بما رحُبت؛ لقلةِ الحال والحيلة، ورغم عشقه الكروي نالت من سمارهِ الجميل اللكمات والضربات لعِباً وكسب عيش، حتى لمِعَ كجوهرةٍ مُغربيةٍ سوداء طافَ ضياءهُا العالم باسمهِ المُميز.. العربي بن مبارك.

كان مولده في "آنفا" عام 1914م يتيماً تحت جلبابِ عائلة يعوزها الحاجة في ظلِ استعمارٍ فرنسي غاشم، تركَ المدرسةَ منذُ مهدِها الثاني، وخاضَ مع الفقرِ صراعهُ الطويل، مارسَ عشقه لكُرةِ القدم بأقدامٍ حافيةٍ برحتها قسوة الأرض، وبنى أسطورته من فريقِ الحي بمزمارِ مهاراتهِ الكروية، حتى صارَ إلى فريقِ إيديال كازابلانكا ثم نادي الياسام فذاعَ صيته وشاع خبره، واستقبلته فرنسا كأول العرب الفاتحين للملاعبِ الأوروبية بـ 35 ألف فرنك فرنسي عبر بوابةِ أولمبيك مرسيليا.

لم يكُن للمغربِ الشقيق مُنتخباً في تلكُم الحقبةِ الاستعمارية، فحاولت فرنسا للمرةِ الأولى أن يصدح بن مبارك "كديكاً" في منتخبهم؛ فرفض العرض قبل أن يلعب بعد حين "مُكره أخاكَ لا بطل" على أنّه لم يبع هويته وانتماءه المغاربي، وأمّا موسمه الأول في مرسيليا عام 1938م فكانَ مُثيراً للدهشة بتألُقٍ لافت سجل فيه 12 هدفا ووضعَ بها الفريق في المرتبةِ الثانية، لكن سوء الحظ رافقهُ باندلاع الحرب العالمية الثانية؛ ليحزِمَ حقائبه عائداً للوطنِ قضى فيها ستة مواسم محلية، تلتها عودة مُظفرة لفرنسا.

لقد كانت العودة لفرنسا هذه المرة لمعقلِ نادي ستاد فرانس الباريسي بعد نهاية الحرب، وهنا كتب العربي قصته الأشهر؛ لعب 90 مباراة بـ50 هدفا في ثلاثةِ مواسم، وجماهير جرفها الحب فحوطته بهتاف "الجوهرة السوداء" وحين قضى الحب عذاله، أُعلنت الصفقة الأغلى في ذاك الزمان بـمبلغ 17 مليون فرنك فرنسي بانتقال الجوهرة إلى أرض الأندلس ونادي "القشتال" الاتلتيكو، فتظاهر الفرنسيون بهتافٍ خالد "بيعوا برج أيفل أو قوس النصر ولكن لا تبيعوا بن مبارك" لكن "السيف كان قد سبق العذل"!!.

في نادي "صانعو الوسائد" استيقظ المُحبين على واقعٍ أكبر من أحلامِهم، فقد حققوا الدوري لأول مرة قبل أن يتبعوهُ بلقبٍ ثانِ في الموسمِ الذي يليه، مع خمسِ بطولات كأس تحت قيادة المدرب الأرجنتيني هيلينو هيريرا وجوهرته السوداء بن مبارك والذي نقشَ اسمهُ بحروفٍ من ذهب؛ خمسةُ مواسم بـ 53 هدف في 113 مباراة، ثم برّ بوعده؛ فعادَ للمرة الأخيرة لمرسيليا قبل أن يُنهي مسيرته كلاعب في أرضِ المليون شهيد مع نادي اتحاد بلعباس.

لم تكُن مسيرته كمدرب ذات قيمة مسيرته كلاعب، وإن كان العربي بن مبارك في سجلاتِ التاريخ أول من درب منتخب أسود الأطلس، علاوةٌ على تدريبه الاتحاد الرياضي والنجم البيضاوي، ثم ماذا؟! اِندثرَ اسمه واِندرسَ ذكره، بالرغم من إضاءة وسام الاستحقاق الإفريقي عام 1990م، ووسام الاستحقاق من الاتحاد الدولي عام 1996م، ورياضي القرن من اللجنة الأولمبية، كما خلدهُ المغاربة بفيلمٍ وثائقي لإدريس المريني عام 2011.

 إنّ حياةَ هذا النجم العربي مليئةٌ بتقلُباتٍ "تراجيدية"؛ حيث التغلب على الصِعاب والوصول إلى المجدِ ثمّ السقوط المُتدرج، لم ينجح في استثمارِ الشهرة وما تدره من أموال؛ فقد رسبت كُل مشاريعه المالية التي علقها على من خذلوه، لكنه كان كالنخلةِ تموت شامخة ولا تنحني، هذا الشموخ الذي حافظ على هويته العروبية والإسلامية في عزِ الإغراءات الغربية "أنا مغربي ومسلم وسأظل كذلك" هكذا قال، بل إنّه كان يلتقي بالطُلابِ المغتربين، ويحثهم على التعلم والمُثابرة من أجلِ الوطن. الوطن الذي كان مقتنعاً بأنّه يدافع عنه بموهبته وسيرته الحسنة واعتزازه بقيمه الفاضلة. الحق أنّ الظروف والأقدار لم تخدم العربي بن مبارك لتربعِ أعلى القمة رغم أسطوريته العالية؛ فقد جاءَ والعالم تعتصره الحروب والاستعمار، ثم إنّه فقد زوجته المُغربية رُقية وزوجته الفرنسية الحبيبة والمُخلصة لويزات أو مليكة، والتي كان رحيلها مع أبنائها الثلاثة لحظة فارقة في حياته، ثمّ أنّه عانى من التهميشِ واللامُبالاةِ فانزوى كطيرٍ جريح حتى السادس عشر من سبتمبر 1992م حين وجدَ مَيتاً في غرفة مُقفلة بعد ثلاثةِ ليالٍ من الوحشةِ والقسوة.

رحلَ الجوهرة السوداء الأولى من قال عنه الجوهرة السوداء الثانية وأفضل لاعب في تاريخِ كُرةِ القدم قاطبةً بيليه: "إنّ كنتُ أنا ملك الكرة فهو إلهها!!" فكم من الدروسِ التي يُمكن أن نشعلُ بها دروبِ الأجيال لمعاني النجوميةِ الحقيقية، والقيمِ السامية من سيرةِ هذا البطل العربي الفذ؟

تعليق عبر الفيس بوك