القيادة.. صناعة الفارق

 

مؤسسة صناع القادة

 

بالرغم من أنَّ هذا المصطلح أصبح شائع الذكر واسع الانتشار، إلا أن البحث فيه وتطوير المفاهيم والتطبيقات المتعلقة به لا يتوقف، ومن أكثر ما يهمله البعض في التعرض لهكذا مفاهيم دارجة، هو التأصيل اللغوي الذي ينبثق عنه دلالات تعريفية تليق بالتعاطي مع المفهوم بنوع من المشاعر إذ إنَّ اللغة بلا شك حية كوسيلة اتصال بين الأحياء.

ومما جاء في لسان العرب: (القِـيادَةُ مصدر القائِدِ . وكلُّ شيءٍ من جَبَلٍ أَو مُسَنَّاةٍ كان مستطيلاً علـى وجه الأَرض. فهو قائدٌ وظهر من الأَرض يَقُودُ ويَنْقادُ ويَتَقَاوَدُ كذا وكذا ميلاً. والقائدَةُ: الأَكمَةُ تمتدُّ علـى وجه الأَرض).ولذا فإنَّ البروز والظهور من معاني القيادة، فذهب المنظرين إلى تعريف القيادة بما يتناسب مع ظهور القائد وبروزه وقدرته على هذا الظهور في حالات صنع القرار واتخاذ مواقف محددة.

وبالرغم من الاختلاف السائد في تثبيت سمة القيادة بين الفطرة والتلقي إلا أن هذا الأمر أصبح جلياً للمؤسسات والدول الكبرى التي تولي هذا الأمر اهتماما كبيرا، إن القيادة لا تكون متكاملة إلا من خلال تكامل أركانها الفطرية والمكتسبة. ومن خلال تجارب مؤسسة صناع القادة والقراءة البحثية تولد مفهوم آخر للقيادة والقائد: فالقيادة الحقيقية هي القدرة على صناعة قادة قادرين على صناعة قادة قادرين على حمل الرسالة. ولذا قد يجد الباحث أن التاريخ قد سجل قيادات وشخصيات عظيمة إلا أنّ كثيرا منهم انتهت رسالته القيادية بمجرد وفاته وهذا بتر لرسالة القيادة والتي تنطوي تحت مفهوم خلقي أصيل وهو الخلافة. ولا يمكن للخلافة أن تتحقق إلا من خلال رسالة كونية متواصلة في بناء خلفاء (قادة) قادرين على نشر الرسالة وتنفيذ الخلافة.

وكلما كانت حواس الفرد نقية ومستقبلات المعرفة لديه زكية، ومُعالجات هذه المعرفة والمعلومات لديه من قلوب قوية، كلما أصبح قادرا على أن يكون قائدا ذا وعي وإدراك لما يدور حوله سواءً في الموقف الآني أو في مجمل الوضع والحال.

النموذج القيادي للفرد قد يتطرق في كثير من الأحيان للحالة الجسمانية من صفات القائد بمعية الحالة العلمية "زاده بسطة في العلم والجسم.." إلا أنَّ هذا النموذج قد تم كسره غير مرة، من خلال بعض النماذج التاريخية التي عرفت قادة ليسوا ضخامًا في الجسم ولكن في العلم، بل هناك من يرى أنَّ بعض القادة كان بهم شيء من الإعاقة الجسدية، إلا أن شخصياتهم وإمكاناتهم غير الجسدية مكنتهم من البروز والتأثير.

ورجوعا إلى الحالة المثالية في تكوين القائد وقدرته على التأثير والتأثر واستمرارية رسالته ونموذجه، فإننا نجد أن التاريخ لم يستطع أن يتجاوز القادة الذين أيدتهم السماء وهم الرسل والأنبياء، ذلك أن تكوينهم وتهيئتهم تمثل الحالة الأعلى في الصورة الإنسانية من حيث اجتماع الصناعة السماوية والأرضية، فكانوا مؤهلين لاحتواء العلم والمعرفة المنقولة والمعقولة، وهذان هما المصدران الأم لجميع العلوم والمسالك.

ولذا فإننا خلال حواراتنا سنتناول القيادات السماوية ليس كنموذج متكامل فقط بل كنموذج جاء ليستمر ويولّد قادة بذات الإمكانات البشرية وإن اختلفت الأدوات إلا أن الدعم السماوي بعد النبوة المحمدية أصبح دستورًا قائمًا ينهل منه كل قائد باحث أو صانع حارث، ليمثل بذلك المصدر المنقول عن الخالق والذي وجه في ذات الوقت إلى تقصي المعقول والمجرب من العلوم منذ تاريخ البشرية وما قبلها وما بعدها في إطار "قل سيروا" و"يتفكرون" و"يعقلون" و"سنريهم آياتنا".

إنَّ الناظر في حال القيادة الإنسانية البارزة بشكل عام سيجد أن لديها عوامل مشتركة سواءً كانت في التكوين الجسدي واللاجسدي والتهيئة والصناعة التي تمر بالقائد منذ نعومة أظافره، وبذا فإنه يتعين علينا لصناعة أنفسنا وغيرنا أن نفهم هذا التكوين بالاقتراب من ذواتنا أكثر فأكثر، ونسخر المزيد من الوقت في صناعة الذات للوصول إلى ذكاءات متعددة وعطاءات متقدة.

ويبقى السؤال؛ هل أنت أو أنا أو هو مؤهل لكي يكون قائدا؟

جواب السؤال لا يكون إلا من خلال المرور بعمليات الترشيح والتدريب والتأهيل التي قد تعطي نسبة جيدة للوصف قد لا يتحقق صدقها إلا عند خوض تجارب الميدان وعمليات صنع القرار الحقيقية. وبالرغم من ذلك إلا أنه لا يمكن القول بأنَّ هذا التقارب في السمات الفطرية أو المكتسبة يعني وجود نمط بشري واحد للقائد، بل إن جميع الأنماط البشرية قد تكون مؤهلة للحصول على فرصة التأهيل ومُؤهلة للظهور كقيادة فريدة بذات النمط والسلوكيات، مع مُراعاة القدرة على تقليمها وتهذيبها لتكون راشدة ومتزنة في أدائها وسلوكها.

في السابق كانت المجتمعات والمؤسسات والحكومات وغيرها من الجماعات والتجمعات صغيرة كانت أم كبيرة، رسمية أو غير رسمية، تنتظر ظهور القائد المناسب الذي سيقوم بالتغيير أو التطوير أو الحفاظ الحسن على منجزات القائد الذي سبقه إن وجد، وهذا كله يجعل من مستقبلنا جميعًا مهما اختلفت بيئاتنا رهيناً للصدفة ومتواكلين في الأخذ بأسباب اكتشاف وصناعة الشخص المناسب في المكان المناسب. حتى جاء الوقت لتفهم وتتيقن الكثير من المؤسسات بل والحضارات أن أحد أهم ركائز التفوق والاستمرارية هو استمرارية صناعة القادة القادرين على مواكبة المتغيرات الزمانية بكافة مجالاتها ومسبباتها. لذا ظهر اليوم ما يعرف بالأكاديميات والمعاهد والكليات وغيرها من بيوت التخصص والاهتمام في انتقاء القيادات وتأهيلها وتدريبها وتوجيهها من أجل الخروج بنخبة جاهزة لخوض معترك الحياة القيادية في سلسلة العلاقات وصنع القرارات، على كل المستويات والمناصب والأصعدة الخاصة والعامة، المدنية والعسكرية.

تعليق عبر الفيس بوك