ذكريات شتوية من ريف ظفار

 

علي بن سالم كفيتان

 

المساءات الشتوية تمنحك شعوراً بالحزن والكآبة لأنَّ البرودة تحضر طوال النهار وتشتد مع تراجع قرص الشمس خلف الأفق وخاصةً في القرى الوادعة كقريتنا الريفية الصغيرة (أمبازجيه) في ريف ظفار... كعادته يحضر قبيل المغرب بعد أن صاحَب القطيع طوال النهار حاملاً حطب التدفئة وعليه معطف قوات الفرق الوطنية لافاً رأسه بمصر عسكري ولا تكاد ترى إلا عينيه يضع حمولته أمام كوخنا الصغير ويحاول أن ينهي مهمة حلب الأبقار قبل حلول الظلام.

فالهواء بارد والشمس باتت تحتضر وسكان القرية يتصايحون لتخزين ماشيتهم في الزرائب لكي لا تنفق من شدة البرد بينما ترفض بعض الأبقار المشاكسة الدخول فترى الجميع في هرج ومرج خلفها لكي تدخل إلى مأواها الآمن ولا أدري إلى اليوم ما هو سبب رفض تلك الأبقار الدخول إلى الدفء رغم شدة البرودة في الخارج؟ أنهينا المهمة وأخذ إبريقه وعصاه الطويلة متجهاً إلى مصلاه في أطراف القرية ونحن نتبعه وينضم إلينا عدد من الصبية وشيوخ القرية... يصدح بالأذان في الخارج في جو عاصف وبارد ونحن نحتمي بتلك الصندقة الصغيرة ثم يدخل علينا ويقيم الصلاة ونصطف خلفه جميعاً والريح يصدر زفراته ويهز ألواح المصلى ولا نكاد نسمع صوت الإمام ولكننا متضامنون معه في كلمة آمين بنهاية سورة الحمد. 

بعد أداء صلاة المغرب نتسابق إلى بيوتنا كالطيور العائدة إلى أعشاشها ويظل هو معتكفاً حتى صلاة العشاء أمهاتنا لا تسمح لنا بالعودة للمصلى في ذلك الجو العاصف خوفاً علينا رغم أننا نرى في ذلك متعة استثنائية بعد يوم رتيب ولكن لا مجال سوى الاستجابة والرضوخ لأوامر السيدات فنتحلق حول الفانوس وسط كوخنا وننتظر عودته والنار مُتقدة بلهب قوي ضارب إلى الحمرة وتصدر فرقعات تمنحنا الدفء المعنوي... الحليب أصبح جاهزا والشاي كذلك وكبسة الرز بالصلصل الأحمر والتونة تنتظر الراغبين في العشاء... حمحمات في الخارج تخبرنا أنه قادم نعود إلى هيئتنا الرسمية بينما هو يدخل بهدوء ويضع جزرته على عتبة الباب من الداخل ويجلس على خط الأسمنت الفاصل بين مكان الجلوس ومكان النوم في بيتنا الدائري البسيط. كعادته يحب أخذ كوب من الشاي الدافئ ومن ثم ينتظرنا جميعاً حتى نفرغ من الطعام المتوفر وبعدها يأخذ حاجته ويخلد إلى النوم بعد أن يتفحص بندقيته العسكرية ويطمئن على سلامتها ونظافتها.

نخلد إلى النوم معًا بعد تخفيض إضاءة الفانوس ويظل الجمر الباقي في الموقد مانحاً للدفء ويعمل على رسم لوحات على السقف فكل حطبة تتحول إلى رماد بصمت وتنعكس على الجدار أو على السقف ومعها أترقب دشاديش المدرسة المعلقة بمسامير على العمود الرئيسي للكوخ فقد كانت أمي تغطيها بالشراشف كي لا تتسخ من هبوط الذباب عليها وملؤها بالبقع السوداء لا زلت استمع لصوت الريح ومع اشتداد البرد أقوم متسللا كي لا أوقظ أحداً وأضع قطعة قماش تحت الباب الخشبي الذي يتسرب منه الهواء البارد وأعود أدراجي إلى الفراش الدافئ بين أبي وأخواني وأخلد إلى نوم عميق.

قبل الفجر بساعة يقوم ويأخذ إبريقه ويذهب إلى مصلاه أقوم أنا على حركة فتحه للباب فأهرع من فراشي وأقوم بإغلاقه خلفه في صراع مع الهواء وفي بعض الأحيان انتظر لأرقبه حتى يختفي بين الظلام والريح بعدها لا أنام بل أبقى في الفراش متدثراً بذلك الغطاء الأحمر السميك أمي توقظ النار عبر بقايا الجمر تحت الرماد وتجمع حولها أشلاء الحطب الليلي تتقد شيئاً فشيئاً ومعها استمتع بسمفونية خض القربة على الموقد لاستخراج الزبدة نقوم لصلاة الفجر ويكون الوضوء عملية معقدة فالماء يجلب من الخزان الرابض جنب سيارة العائلة بعيداً عن منزلنا بينما الريح تقذف بالحصى والطين وأنا من أجلب الماء للجميع وأضعه في الخارج فيكفي لكل مهمات العائلة ذلك الصباح... استيقظ الجميع وأخذ حصته من شاي الجمر ومن الحليب المتبقي من الليل وبدأنا في تجهيز أنفسنا للذهاب للمدرسة فكل واحد منِّا يدخل في دشداشته المعلقة ويأخذ حقيبته ويجلس على الساتر الأسمنتي وسط المنزل يدخل هو ويتفحص ربط الصغير لرأسه جيداً ويمنحنا بعض الطاقة الإيجابية ثم نغادر واصطحبهم من باب منزل إلى آخر ومن جدار إلى آخر فهي معركة مع الريح حتى نصل إلى دار العم محيسن الواقف على عتبة منزله يلمنا جميعًا عنده في بيت النار ويستطلع لنا وصول سيارة المدرسة التي تجمعنا على أطرف القرية وفي أحيان كثيرة يرافق صغار السن حتى يدخلهم السيارة لا زالت صورته عالقة في أذهان الأطفال الذين كبروا وأصبحوا رجالاً ونساء اليوم إنه إنسان من عالم جميل.