المنافع الاجتماعية للتنمية

حاتم الطائي

النهضة الاجتماعية وفّرت سبل العيش الكريم والحياة المستقرة للمواطنين

3 مراحل تنموية و3 أبعاد اجتماعية لمسيرة النهضة المباركة خلال 50 عامًا

الانطلاقة الثانية من النهضة المباركة تتطلب تضافر الجهود والاستعداد للمستقبل

 

نهضة اجتماعية واسعة تحققت على أرض وطننا العزيز خلال المسيرة الظافرة للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه- وهذه النهضة لا يمكن النظر إليها من زاوية التطورات الاجتماعية فحسب، من حيث تطور المستوى التعليمي وخدمات الرعاية الصحية؛ بل إنّ هذه النهضة الاجتماعية تشمل كل جوانب العمل المؤسسي الذي ساهم في إحداث طفرة في الخدمات المقدمة للمواطن، من أجل توفير سبل العيش الكريم والحياة المستقرة في كل ربوع الوطن الغالي.

وللتنمية التي تحققت على مدى نصف قرن من الزمن، شهدت العديد من التطورات ومراحل التقدم والارتقاء، ويمكن تقسيم هذه المراحل إلى ثلاث؛ الأولى تجلّت خلال العقدين الأولين من مسيرة النهضة المباركة أي في فترة السبعينيات والثمانينيات، حيث تمحورت التنمية حول بناء مؤسسات الدولة ونشر مظلة التعليم والصحة في أكبر عدد من الولايات، لتعم منافعها جموع المواطنين أينما كانوا. وشهد هذان العقدان تطورات تنموية من حيث التوسّع في بناء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية، إلى جانب تشييد وهيكلة مؤسسات الدولة مثل الوزارات والهيئات والإذاعة والتليفزيون، وغيرها من المؤسسات التي وُلدت في بواكير النهضة الأولى.

المرحلة الثانية من النهضة المباركة بدأت في عقد التسعينيات وحتى مشارف العقد الأول من الألفية الثالثة، وفي تلك الفترة الطويلة نسبيا، وشهدت فيها عمان تحولات جذرية من أقصاها إلى أقصاها؛ حيث بدأت الدولة تجني ثمار الخطط الخمسية التي انطلقت في عام 1976، وعمّت الإنجازات ربوع الوطن، فامتدت آلاف الكيلومترات من الطرق والشوارع الأسفلتية وفق أعلى معايير الجودة والسلامة، وأقيمت الجسور وربطت بين مختلف المناطق، وتوسّعت السلطنة في إنشاء الموانئ والمطارات، والمناطق الاقتصادية الحرة، إلى جانب المناطق الخاصة، وعلى رأسها المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم، التي ستقود مسيرة التنمية خلال السنوات المقبلة.

المرحلة الثالثة التي شكّلت مسيرة النهضة المباركة، بدأت مع انطلاقة العقد الثاني من الألفية، وتحديدًا في عام 2011، عندما أخذت الدولة على عاتقها مسؤولية التحديث من الداخل وإعادة هيكلة بعض الوزارات والمؤسسات، وضخ دماء جديدة في الجهاز الإداري للدولة وغيره من المؤسسات الفاعلة في مسيرة النهضة الشاملة بالبلاد. وشهدت السنوات من 2011 إلى 2020، المزيد من التقدم والنماء فيما تحقق من منجزات النهضة الميمونة، وعملت مؤسسات الدولة على تعزيز جهود التحديث والتطوير في كل ما من شأنه أن يساعد في مزيد من الإنجازات على الأصعدة كافة. وحفلت العشرية الثانية من الألفية الثالثة بمنجزات فريدة من نوعها، منحت مسيرة النهضة القابوسية ألقًا وتوجّها وأضافت رونقا بديعا، فأزيح الستار عن دار الأوبرا السلطانية التي تمثل أيقونة معمارية ومنارة تثقيفية وتنويرية رائدة، كما افتتح مطار مسقط الدولي في حلته الجديدة التي تواكب العصر وتتماشى مع أعلى معايير الجودة العالمية، إلى جانب افتتاح عدد من الطرق المتقدمة مثل طريق الباطنة الساحلي وطريق الشرقية الساحلي وغيرها من شرايين التنمية الشاملة التي تربط أنحاء السلطنة ببعضها البعض.

إذن النهضة الاجتماعية ازدهرت ونمت مرتكزة على عدة عوامل؛ أولها توافر الإرادة السياسية من لدن القيادة الفذة والحكيمة، حيث أكّد جلالة السلطان الراحل في كثير من المناسبات عزمه على بناء نهضة شاملة متكاملة الأركان، هذا إلى جانب الإدارة الرشيدة لموارد الدولة والاستفادة القصوى من عائدات النفط على الرغم من التذبذبات التي شهدتها الأسعار على فترات متباينة، وكذلك المتابعة الحثيثة من رأس الدولة لمختلف المشاريع والخطط التنموية.

وهنا تحتم الأمانة علينا أيضا أن نقف على ما أنجزته المسيرة الظافرة للسلطان الراحل من نهضة اجتماعية، وفق 3 أبعاد واضحة؛ الأول: البعد التعليمي؛ حيث استطاعت الحكومة الرشيدة وعلى مدى 5 عقود أن تشيد العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية، في مختلف المستويات، فالأمر لم يتوقف فقط على التعليم المدرسي، والذي شهد طفرة كبيرة زادت من عدد المدارس من 3 مدارس تقريبا إلى ما يزيد عن 1166 مدرسة حكومية، حتى إن عدد الطلاب في هذه المدارس اليوم يزيد عن 635 ألف طالب وطالبة، ناهيك عن المدارس الخاصة والدولية ومدارس الجاليات ومدارس القرآن الكريم وغيرها، وما تضمه من آلاف الطلاب أيضا. وهناك مؤسسات التعليم العالي من كليات وكليات جامعية وجامعات، والتي تزخر هي الأخرى بالآلاف من الطلاب، وتخرج نحو 40 ألف طالب سنويا، حسب بعض التقديرات.

البعد الثاني من النهضة الاجتماعية، يتمثّل في القطاع الصحي، والذي تظهر المؤشرات الرسمية ما حققه من قفزة من حيث عدد المستشفيات والمراكز الصحية، فبلادنا في الوقت الحالي تنعم بما يفوق 56 مستشفى قادرا على توفير الرعاية الصحية لآلاف المواطنين وتضم 5915 سريرًا، إلى جانب 22 مجمعًا صحيًا، و185 مركزاً صحياً تشتمل على 95 سريرًا، فضلا عن 1283 مؤسسة صحية خاصة. هذا يعني أنّ نهضة صحية كبيرة تحققت ولا تزال، لتخدم جموع المواطنين وتقدّم لهم الخدمات الصحيّة والرعاية الطبية المتطوّرة في مختلف التخصصات.

البُعد الثالث الذي ترتكز عليه مسيرة النهضة الاجتماعية، هو البُعد الوظيفي، ففي ظل تطور الحياة وانتعاش الاقتصاد استطاعت الحكومة والقطاع الخاص أن يوفرا مئات الآلاف من الفرص الوظيفية للمواطنين، ويتأكد ذلك من خلال النسب المُتدنية لأعداد الباحثين عن عمل وفق المؤشرات الرسمية. فما تحقق من نهضة شاملة في السلطنة، ساعد على خلق فرص عمل متنوعة، وعزز من أداء مؤسسات القطاع الخاص التي وظّفت بدورها العديد من أبناء الوطن في مختلف التخصصات، وفتح المجال أيضا أمام نشر ثقافة العمل الحر، والتشغيل الذاتي، فنمت أعداد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي يديرها شباب عماني مخلص ومجتهد، يقود شركته بنفسه وبمساعدة من أبناء وطنه. ومع تنامي عدد الوظائف والتحاق قطاعات عريضة من المجتمع بالعمل تعززت مسيرة التنمية من خلال زيادة الإنفاق المجتمعي وانتعاش حركة التجارة وزيادة معدلات الاستهلاك، وكل ذلك عاد بالخير على اقتصادنا.

وهنا يجب أن نشيد بما حققه صندوق الرفد من تقدم فيما يتعلق بتوفير الوظائف والفرص التشغيلية للمواطنين، من حيث القروض الميسرة التي يقدمها للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب المشاريع الحرة، وهي جهود مباركة، وأحد الأفكار التي أطلقها جلالة السلطان قابوس- رحمه الله-.

انعكاسات هذه النهضة الاجتماعية تجلّت بقوة على جودة الحياة في وطننا الغالي، فتحقق العيش الكريم الذي وعد به جلالة السلطان الراحل- طيّب الله ثراه- وبات المواطن يحيا في خير ورخاء، مع تفاوت المستويات، وعم الاستقرار الأسري والاجتماعي في ظل قدرة ربّ البيت على تدبير احتياجات الأسرة. ومما يحسب ضمن منجزات النهضة الاجتماعية أنّ تطور القطاع الصحي ساهم في تراجع معدلات وفيات الأطفال وزيادة العمر الافتراضي بين المسنين، وتراجع نسب الإصابة بالأمراض. أمّا في القطاع التعليمي، فقد زادت معدلات الخريجين الحاصلين على شتى الشهادات العلمية، وتقلّصت نسب الأمية، لاسيما بين كبار السن في ظل برامج الدولة لمحو أمية هذه الفئة، وانخفضت بشدة نسبة التسرّب المدرسي، ولا يكاد يذكر أنّ بلادنا تشهد هذا النوع من التسرّب. ولهذا توالت إشادات منظمة الأمم المتحدة والهيئات والمنظمات التابعة لها بما تحقق من منجزات على أرض الوطن، علاوة على ما وصلت إليه السلطنة من مؤشرات متقدمة في مجالات التنمية وتحقيق أهدافها المستدامة.

والآن ونحن في مستهل الانطلاقة الثانية من النهضة المباركة تحت الحكم الرشيد لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- يتعين علينا جميعا تقديم كل سبل الدعم والتفاني من أجل مواصلة مسيرة التحديث والبناء، وخاصة من قبل القطاع الخاص الذي يُعوّل عليه الكثير خلال المرحلة المقبلة مع بدء تنفيذ الرؤية المستقبلية "عمان 2040". ومن هنا لزم أن نؤكد ما نطالب به على الدوام، من تسهيل الإجراءات للقطاع الخاص، وعلى رأسها في الوقت الراهن توفير السيولة اللازمة لتنفيذ مشروعات التنمية والتوسّع فيما هو قائم، ولن يتأتى ذلك دون سياسات نقدية تُيسر على المستثمر الحصول على التمويل البنكي اللازم بأسعار فائدة معقولة، تتماشى مع المتوسط العالمي، بحيث لا تزيد الفائدة عن 5%، وتتماهى أيضًا مع معدلات التضخّم المنخفضة والتي تعد الأدنى خليجيا وعربيا على الإطلاق. ومن هنا تنبع ضرورة تطوير بنك التنمية العماني، الذي يعد الممول الأول للمشاريع التنموية؛ وذلك من خلال زيادة رأس ماله، وليكن إلى 300 مليون ريال، مع توسيع دائرة المجالات المستحقة للتمويل التنموي، فلا يكفي حصر 3 أو 4 مجالات تنموية وحسب، بل يتعين أن تتوسع المجالات لتشمل 8 أو 9 مجالات تنموية.

وختاما.. إننا أمام مرحلة جديدة.. مرحلة تضافر الجهود، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ودعم وتحفيز الاستثمارات الوطنية والأجنبية، بما يساعد على تعزيز مناخ العمل وإنجاز أعلى معدلات التنمية، والاستفادة مما تحقق على أرض الوطن خلال العقود الخمسة الماضية، والبناء على تطلعاتنا للمستقبل المزدهر بإذن الله تعالى.