رحل مُنجز الوعد.. وعُمان تظل تكبُر

 

◄ بددت سرعة اتخاذ قرار التوريث وسلاسة انتقال السلطة في بضع سويعات كلَّ التوجسات والمخاوف التي كان يلوك بها البعيد قبل القريب

 

حمد بن سالم العلوي

أنْ يرحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه - إلى مثواه الأخير فذلك أمر مقضيٌّ من الله في خلقه، ولكن عُمان وهي من صنع النهضة القابوسية، حتماً لن ترحل بل ستظل تكبر، وإنما سيخلد باسمه تاريخها وساماً على صدر الزمن، وهو من تسلم عُمان مجرد جغرافيا وتاريخ، فحوَّلها بعزمه وحكمته إلى وطن يعج بالحياة والحيوية، لن يوفيه القلم حقه في ذكر الأعمال التي قام بها للخروج بعُمان من عزلتها وجمودها، فنقلها من العدم الوجودي في بضع حقب من القرن الماضي، حيث حولها إلى شموخ المجد في القرن الحادي والعشرين، فذكر رحلة عُمان وبعثها من تحت غبار السنين، والارتقاء بها إلى مناكب الأصالة، والمعاصرة على مدى خمسين عاماً من التطور والنمو وعلو الشأن، فإنه يحتاج إلى مركز دراسات متخصص، وذلك لسرد سيرته النضالية؛ فقد تحتمل عمله مجلدات عديدة لتوضيح ما تم إنجازه؛ وذلك لمن لم يشهد عصر قابوس المنير، بدءاً من بناء الإنسان العُماني، وبناء أركان الدولة في كل مناحي الحياة الكثيرة، فالذي تمخَّض عن ذلك البناء، هذه الحضارة الرائعة، التي ربطت بين الماضي التليد والحاضر المجيد، فالمستقبل الواعد بكل خير.

إنَّ البناء القابوسي العظيم، قد ورَّث مؤسسات مرصَّعة بجواهر من القيم والمبادئ الثابتة، وتلك كانت في حياته، وستظل باقية ما بقي الدهر بعد مماته، وهي تتجاوز الإقليم العُماني إلى كل دول العالم؛ فإذا جئنا إلى نظام انتقال الحكم في البلاد التي يقوم نظامها على توارث الحكم؛ فجلالة السلطان قابوس -رحمة الله عليه- ثبَّت ما كانلا تقليداً متوارثاً في انتقال ولاية الحكم بالعرف؛ فجعله يأخذ صِفَة التأسيس؛ وذلك من خلال نظام مكتوب، وتشريع ملزم ومعلن للجميع، ألا وهو "النظام الأساسي للدولة" وشمل كذلك الحقوق والواجبات للشعب والوطن، وعندما اختاره الله إلى جواره في ساعة متأخرة من يوم الجمعة الموافق 10 يناير 2020م، عُرض هذا النظام للتجربة والاختبار؛ فكان النجاح الكبير لهذه التجربة، فما كادت تمرُّ إلا ساعات قليلة من صبيحة اليوم التالي، إلا والأسرة المالكة الكريمة تقرُّ بفتح الوصية دون انتظار المهلة ثلاثة أيام؛ فبذلك ردت هذه الأسرة الكريمة التحية بأحسن منها، وفاءً وتقديراً وعرفاناً لجلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- فكيف لا تكون كذلك؟! وهي المتحملة لهذه الأمانة الكبيرة والجسيمة منذ العام 1744م إلى اليوم والغد بإذن لله، وهل ينتظر من هذه الأسرة العريقة، والتي يسري في جيناتها الوراثية الحكمة وسداد الرأي وكياسة السياسة، إلا وحدة القرار وتعظيم شأن الأمة على المصلحة الفردية؟

لقد نَالَ الدرسُ الأول الذي ورَّثه المرحوم السلطان قابوس للأمة النجاح الباهر، فقد بدَّدت سرعة اتخاذ قرار التوريث، وسلاسة انتقال السلطة في بضع سويعات، كل التوجسات والمخاوف التي كان يلوك بها البعيد قبل القريب؛ وذلك رغم أهمية وعظمة القرار المتمثل في انتقال سلطة بحجم "سلطان سلطنة عُمان"؛ فيحدث ذلك بكل تلك السهولة واليُسر والتجرد من كل أنانية، فيئد بهذا الحسم الجازم كل الشكوك والريبة من أذهان الناس في فترة وجيزة من الزمن، وهذا بفضل الحكمة العُمانية المشهود لها عالميا، وعندما كان يقال للمتسائلين عن حال السلطنة بعد رحيل مؤسس نهضتها الحديثة، بأنه لا خوف من نشوء فراغ في السلطة، فليس من أحد كان يصدق أنَّ الأمور ستجري كما حدَّد ذلك النظام الأساسي للدولة، تُرى ماذا قال المشككون بعد ما تم كل شيء خلاف الذي قالوا؟! ووفقاً لما رُسِم له بالتحديد؟! نقول لهم؛ إن عُمان تختلف عن الكثير من الدول، خاصة العربية منها؛ لذلك يجب ألا يُؤتى بعُمان ليقاس بها مع غيرها من الدول، وإنما عُمان تُقاس مع ذاتها بكيف كانت؟ وكيف صارت اليوم؟ وكيف ستكون بالغد البعيد؟!

وهنا.. أريدُ أنْ أطرحَ ملاحظة جوهرية، قد تكونت لدي مؤخراً، وذلك بعد الاطلاع على بعض الآراء التي ينشرها بعض الناس، فأقول للذين ذهبوا مع سيل التخريصات والتوقعات، هوِّن عليكم؛ فإن إدارة الدولة في يد أمينة وموثوقة الجانب، فجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم -حفظه الله ورعاه- كان يعيش في قلب السلطة فلا شيء جديد عليه، وحتى إنْ أعلن في خطابه السامي أنه سيترسم خطى المغفور له، إلا أنه له شخصيته المستقلة في إدارة كيان الدولة، وبأسلوبه الخاص القريب جدًّا في صفاته من السلطان الراحل؛ وذلك من حيث الهدوء والبعد عن الشطط والتسرع غير المحمود، وإن كان سيلتزم الخطوط العريضة لسياسة السلطنة، فسيحافظ عليها بالطريقة التي تليق بعُمان، لأن عُمان عرفت عبر التاريخ بهذا النهج الحر المستقل، والمتوسم في جلالة السلطان هيثم المفدى، أن يقود نهضة جديدة بمعنى الكلمة، تكون مُكمِّلة ومُطوِّرة للنهضة التي سارت عليها البلاد من عام 1970م إلى اليوم.

إذن؛ فإنَّ فالمغفور له -بإذن الله تعالى- السلطان قابوس -رحمه الله- قد ورَّث دولة مكتملة الأركان، ولم يهدر يوماً واحداً من عمره في غير صالح الوطن، وحتى بعد وفاته استمرَّ يعطي الدروس والعبر؛ وذلك من خلال العبر والقيم المعنوية المورَّثة في الجنازة المبسطة، والقبر العادي لا يُميزه شيء عن قبور بقية المسلمين، وكذلك في أسلوب انتقال ولاية الحكم إلى السلطان الذي اختاره بعناية تامة، ذلك من أجل استمرار الطريقة الهادئة والرزينة، والتي يفضلها الشعب العُماني الأبيّ، حفظ الله عُمان وجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم، وأيده بنصره وتوفيقه، وجعل الله الخير يجري على يديه.. اللهم آمين يا ربَّ العالمين.