أترى العالم في القبر نزل؟!

 

المعتصم البوسعيدي

ما زلنا عالقين في فجر الحادي عشر من يناير؛ حيث التوجس والخوف من القادم المجهول الذي رسمته الليلة السابقة بإعلان حالة الطوارئ، وحيث العيون يجافيها النوم والقلوب يغالبها الحزن، قبل أن يأتي عليها صاعق الخبر المفجع على نزقة نعاس ما اكتمل نومه.

رحل الباني البار بوعده، الإنسان العظيم الذي بذل لعمان قلبه وعقله.. رحل مترجلاً عن صهوة المجد، تحمله حمامات السلام وتظلله سُحُب الرحمة، وشعبٌ هم أبناؤه وإخوته وصحبه، أبو الأيتام، وعزاء الأرامل، والقابض على جمر الإسلام والعروبة والإنسانية في زمنٍ تسارع البشر فيه للقتل والدمار، للموت والانكسار، لشعاراتٍ زائفة باسم الحرية والديمقراطية والازدهار. رحل قابوس ولم ترحل مآثره، رحل قابوس الاسم الذي أعمد كتابة اسمه -هنا- دون لقب؛ ففخامة اسمه لا يعلوها لقب، ولا تزيدها مقامات، واسمه قاموس المعاني، المتفرد السامي، والكريم المضيء بالمكرمات والأقوال والأفعال العظيمات.

لن تستطيع المحابر أن توفيه حقه، ولا الحروف أن ترسم دربه، لعمان عاش ومات، همه أمنها وسكينة شعبها وطمأنينتهم؛ فكان مشهد الرحيل جزءًا من شخصيته الفذة، فيا لهف دمعي كيف لا تجريه سواقيه؟! ويا نبض قلبي كيف لا ينعي أراضيه؟! وكأنَّ بشاعر عُمان الأديب الأريب أبا مسلم البهلاني -رحمه الله- واقفٌ على قبره الطاهر حين سجي جسده الوضاء وبدنه المنير، ليردد بحارقات الدمع على بياض العمائم بمقربة بدر الدين الخليلي وقمره الخروصي، بيت رثاء نور الإنسانية والدين السالمي "جمع العالم في حيزومه/ أترى العالم في القبر نزل؟!".

إنَّ مشهد الرحيل أعاد للأذهان صوت النهضة المباركة، ذلك لأن الموت -على ما أفسره- استحضار للحياة، واستجلاب للأثر الطيب، فكيف والراحل "أعز الرجال وأنقاهم" قابوس بجلالة قدره المعظم، وإرثه الخالد، وسأسمح لنفسي أن أختم بكلمات كتبتها منذ زمنٍ مضى تصف مشهد النهضة الذي كتب قصة "الكيان الحضاري التليد" المتواصل بنهضة عمان الحديثة، المتجددة في عطائها وضيائها السرمدي:

هناك..

في الركن القصي

رجلٌ على ضوء شمعة.. يكتب رسالة

أبي العزيز..

أكتب إليك من أرض الغربة، والشوق لا تخمد ناره

كيف الحال والأحوال؟

كيف الأهل والأولاد: محمدًا، وسارة؟

كيف أمي وخبزها عند صوت الآذان؟

كيف الأهل، والأصحاب؟

كيف الوطن.. وما هي أخباره؟!

وهنا..

في بيتٍ طيني يضوع بمسك الطهارة

دمع يعلن على الخدين انحداره

ابني الغالي..

كلنا لهفةٌ إليك.. والصبح طال انتظاره

أمك أصابها الوهن

والأولاد يكبرون

والدار يضيق بزواره

صاحبك "إن كنت تذكره" مات

وهو يسعى بين زورقٍ وصنارة

والوطن..

هناك صوتٌ يرتفع

عله يحمل بشارة

****

قادم بصوت النهضة ينادي

أيها الشعب..

لنهتدي بضوء المنارة

كنا بحار السلام

حدائق الخير الأبدي

أريجه وأزهاره

عودوا للوطن

عودوا للبناء

عودوا للصدارة

أيها الشعب..

سنعمل

والظلام ينجلي بنهاره

***

ترك الرجل ركنه القصي

الحبر غطى الورق

الريح يسبقها الأمل

والأمنيات ترسم أقداره

عاد وعادوا.. لعمان أجمل

وقد فاضت السماء.. بقابوس الحضارة