أنا مشغُول

 

 

جابر حسين العماني

 

من الجميل أن يشغل الإنسان وقته بما يفيد ويستفيد، لينفع بذلك الجميع، فإنَّ استغلال الوقت واحترامه وإجلاله أمرٌ في غاية الأهمية، بل هو أساس نجاح الإنسان في أسرته ومجتمعه ووطنه، ولكن! هل من الممكن أن يكون الإنسان مشغولا طيلة نهاره وليله بشكل متواصل بلا انقطاع؟!

هناك من إذا سئل عن وقته قال: "أنا مشغول"!!

طالما سمعنا هذه العبارة مِمَّن يُوهمون أنفسهم بأنهم مشغولون، وأغلب من يعاني من هذه المشكلة النفسية عادة ما يكون هدفه من ذلك هو إشعار من حوله بأنه إنسان مهم، وأنه صاحب موقع ومكانة مرموقة في المجتمع تشغله عن الجميع؛ لذا يشعر دائما أنه مشغول عمن حوله.

من المؤسف أنَّ وهم "أنا مشغول" حَرَمَنا من الكثير من عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة والجميلة التي كسبناها من آبائنا وأجدادنا الكرام، والتي ينبغي التمسُّك بها، ففقدنا بقولنا الدائم: "أنا مشغول" صلة الأرحام، والجلوس مع الأسرة، وعيادة المرضى، والصلاة في بيوت الله...وغيرها من العادات والسلوكيات الحميدة والطيبة التي أوصانا بها البارئ عز وجل في كتابه العزيز.

لقد خلصت دراسة حديثة للباحثة جيه كريستين كيم -وهي الأستاذة المساعدة في مجال التسويق في جامعة هونج كونج للعلوم والتكنولوجيا- تقول: إنَّ الشعور الذي يشعر به الإنسان بالانشغال من خلال تكراره لعبارة "أنا مشغول"؛ فهو يحاول جاهدا بث الطمأنينة إلى نفسه، وتقول الباحثة: إن قول الناس نحن مشغولون يجعلهم يشعرون بأن حياتهم مهمة جدا، وأن وجودهم في الحياة يصنع فارقا بالنسبة لمن حولهم.

عندما نتأمل حال البعض ممن يقول: "أنا مشغول" كيف يتعامل مع وقته؟ فقد تجده فعلا هو مشغول، لكنه لا ينتج شيئًا، وهذا ينطبق عليه المثل الصيني القائل: "أن لا تفعل شيئًا خير من أن تكون مشغولًا دون أن تفعل أي شيء".

مع كل الأسف.. إنَّ كلمة "مشغول" في كثير من الأحيان أصبحت اليوم تعبر عن الفوضى، وعدم تنظيم الحياة الأسرية والاجتماعية؛ لذا يجب على من يقول أنا مشغول -وهو فعلا غير مشغول أو يوهم نفسه بأنه مشغول- أن يقرر عازما على محو كلمة "مشغول" من حياته، واستبدالها بكلمة "متاح في كل وقت"؛ فمن الطبيعي أن الإنسان إذا فعَّل كلمة "أنا متاح في كل وقت"، فإنه سيجد أن لديه استثمارًا لنصف الوقت الضائع سابقًا.

كم هو جميل أن يشغل الإنسان أوقاته بما يُفيد ليصبح منتجا في حياته الأسرية والاجتماعية! لكنه لمن المؤسف عندما ترى من يشغل كل أوقاته بدون أي إنتاج يذكر! فأمثال هؤلاء يشبهون بفعلهم: ذلك البحار الذي انشغل بإخراج الماء من قاربه ولم يصلح الثقب! فظل يخرج الماء من قاربه بلا فائدة تذكر، دعوني أذكر لكم قصته الجميلة مع ذلك الحكيم اللبيب، فإنَّ قصته فيها الكثير من العبر والدروس فلنتأملها جيدا:

"في يومٍ من الأيام، ذهب رجلٌ حكيمٌ إلى الشاطئ، فوجد بَحّاراً في يده دلو. وكان البحار مشغولا جدًّا والعرق يتصبب على جبينه، فقد كان يخرج الماء الذي ملأ قاربه، نظر إليه الرجل الحكيم باستغراب، ثم سأله: ماذا تصنع؟  فأجابه البحار: مشغول بإخراج الماء من قاربي مستخدماً هذا الدلو، فسأله الرجل الحكيم: ومن أين أتتْ هذه المياه إلى قاربك؟ فأجابه البحار: يوجد ثقبٌ في قاربي يدخلُ منه الماء! فردَّ عليه الرجل الحكيم: أعتقد أنَّك ستظل مشغولاً إلى الأبد، وستظلُّ المياه تدخل إلى قاربك.. نظر البحار إلى الرجل مستغرباً ثم قال: ولماذا؟ ألا ترى أني أحاولُ جاهداً إخراج المياه من القارب؟ فأجاب الرجل الحكيم: نعم! أنتَ تحاول إخراج المياه، لكنك في الواقع لن تخرج المياه وستظل تغمر قاربك. فأجاب البحار وعلامات الاستغراب باديةٌ على وجهه: ولكنْ لماذا؟! ردّ الرجل الحكيم: لأنك بكل بساطة لم تعالجْ أصل المشكلة! فأجاب البحار: وما الذي يتعين عليَّ فعله؟ قال الرجل: عالج أصل المشكلة واصرف جهدك إلى معالجة الثقب الموجود في قاربك، حينها، لن تحتاج إلى كل هذا الجهد المهدر والوقت الضائع!

وبالفعل قام البحار بإصلاح الثقب الموجود في القارب، فبدأتْ المياه بالتوقف عن الدخول إلى القارب! ثم قام بعد ذلك بإخراج المياه المتبقية بواسطة الدلو، وما هي إلا لحظات، وإذا بالقارب أصبح خالياً من المياه تماماً، وأصبح جاهزاً للإبحار!

قد تكون القصة أعلاه خيالية، وليست بحقيقية، إلا أنَّها تُعلِّمنا الكثير من العِبر، وتحكي لنا واقعَ الكثيرٍ من البشر الذين يشغلون اوقاتهم بلا فائدة، ويعتبرون ذلك انشغالا يشغلهم عمن حولهم؛ وبالتالي حرموا أنفسهم من الكثير والكثير من العادات الاجتماعية والأسرية الطيبة التي ينبغي أن يتحلوا بها في الداخل الأسري والاجتماعي.

أخيرا.. علينا أن نعلم أن الوهم بالانشغال الزائد قد يؤثر سلبا على إدراكنا، ومن أجل نجاح انشغال الإنسان، من المهم جدا أن يتحكم الإنسان في كل ما يقدمه من أنشطة أسرية واجتماعية، بدلا من أن يسمح للأنشطة بالتحكم فيه.