هذا التقدير الكبير لعُمان!

عبدالله العليان

الحضور الكبير اللافت من زعماء العالم، من سياسيين ونخب فكرية وسياسية، متعددة الرؤى والأفكار والتوجهات، جاءت للتعزية بوفاة جلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- والتهنئة للقيادة العُمانية الجديدة، المتمثلة بجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، بتوليه مقاليد الحكم، بلا شك يُبرز لكل العالم، مدى التقدير الكبير لعُمان، وسياستها التي كانت وستبقى متوازنة مع الجميع، وساعية لحل المشكلات والتوترات والنزاعات في عالم اليوم، واللافت الذي لاحظه العديد من الكتاب والإعلاميين والمتابعين للشأن العماني، أن الحضور للسلطنة بمناسبة هذا الحدث المؤلم للعمانيين وللعالم بخسارة هذا الزعيم الحكيم -رحمه الله- أن كل الخصوم في الرؤى السياسية العربية والعالمية -كما نعرفها جميعاً- أجمعت على مكانة عُمان واحترامها، وتقدير سياستها الخارجية كما عُرفت دائماً، وهذه بحق لم تجتمع في دولة من الدول في العالم، بمقاييس العصر الراهن وتحولاته واضطراباته السياسية على وجه الخصوص، وهذا السياسة العمانية التي سارت عليها السلطنة لاقت تقديراً كبيراً للواقعية التي تطرحها لحل التوترات والانقسامات التي تحدث بين دول العالم بين الحين والآخر، وقد كان للراحل جلالة السلطان قابوس رؤى سياسية ثابتة وعقلانية، في كيفية الابتعاد عن النزاعات والتوترات؛ سواء كانت معها، أو حتى مع الآخرين؛ لذلك وبحمد الله، أنهت بلادنا كل ما من شأنه أن يُسهم في تعكير الأجواء مع جيرانها من الأشقاء؛ لذلك حلت كل الخلافات الحدودية، بصورة ودية راقية، وبهذا خلقت أجواء رائعة مع الجميع.

ونستذكرُ أقوال جلالة السلطان قابوس -رحمه الله- في مسألة العلاقات الدولية والسياسة الثابتة التي اختطها السلطنة منذ نهضتها الحديثة من العام 1970، فيقول: "إننا نعتقد جازمين أن بناء الثقة بين الشعوب، وتأكيد أواصر الصداقة مع الدول، والعمل على تحقيق المصالح المشتركة، ومراعاة الشرعية الدولية، والالتزام بالمعاهدات والقوانين.. كلُّ ذلك من شأنه أن يؤدي لمزيد من التفاهم الواعي، والتعاون البناء؛ من أجل انتصار الأمن والسلام، وشيوع الطمأنينة والرخاء. وإذ نعبر من هذا المنبر عن تمنياتنا للعالم -بمختلف شعوبه ودوله- بالتوافق والاستقرار الاقتصادي والسياسي، فإننا ندعو قادته إلى بذل جهد أكبر من أجل تنمية التواصل، وتقوية الروابط، وتوثيق الوشائج، وصولا إلى عالم أفضل يسوده الوئام، وينعم فيه الجميع بالعدالة والسلام". وهذه السياسة بلا شك أثمرت تقارباً، مع كل الدول، التي تحترم القوانين الدولية، والساعية للسلام والعدل الدوليين، ومع الدول التي كانت لها مع عُمان خلافات سياسية، في فترة الحرب الباردة التي كانت سائدة آنذاك، كالصين والاتحاد السوفييتي (السابق)، روسيا الاتحادية حالياً، ونتذكر عندما اتخذت الدول العربية، قرارها الشهير في مؤتمر بغداد عام 1979، بقطع العلاقات مع مصر بعد اتفاقية "كامب ديفيد".. تحفظت السلطنة، على هذا القرار بقطع العلاقات مع مصر، لإيمانها بأن العلاقات العربية، هي علاقات ثابتة، تفرضها حقائق الجغرافيا والتاريخ المشترك وقطع العلاقة مع بلد عربي، تعني أيضاً مقاطعة شعب.

 ثم سعت السلطنة بجدية لإعادة العلاقات العربية مع مصر، وحققت بذلك وحدة اللحمة العربية ونجحت في ذلك بسنوات قليلة، وفي قضايا الداخل وتحدياته، وقد كتبت عن ذلك في بعض الدراسات عن هذه المرحلة، والتي كانت من أصعب المراحل، التي واجهت جلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- بعد التغيير في العام 1970، خاصة آثار ثورة الإمامة في المناطق الداخليّة من عُمان في الخمسينيّات، والثورة في ظفار في منتصف الستينيّات، وبداية السبعينيّات، إلّا أنّه استطاع بحكمة واقتدار أن يطوي آثار هذه التحدِّيات، بحكمة وبعقليّة فذّة، إذ ركّز على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنيّة، ودعا الجميع إلى بناء عُمان الحديثة، وفتْح صفحة جديدة، وترْك الماضي وآثاره، تحت شعار "عفا الله عمّا سلف"، وبدأت مرحلة جديدة لبناء عُمان، واستعادة أمجاد الماضي التليد، وتأسيس الدولة العمانيّة الحديثة التي تُعتبَر الانطلاقة الحقيقيّة في هذا العهد، وبدأ فعليا وضع سياسات تنهض بالبلاد، بعد فترة طويلة من التراجع والتخلّف التي واجهت عُمان لما يقرب من قرن، وقد كان العمانيّون يعيشون في أوضاع صعبة، وكثيرون منهم هاجروا إلى دُول الجوار للعمل والعيش الكريم، بسبب الأوضاع الاقتصاديّة والأوضاع الحياتيّة الصّعبة في الخمسينيّات والستينيّات، وكانت أولى النداءات من القيادة الجديدة، هي بدعوة للعُمانيّين في الخارج، للعودة إلى بلادهم، والمشاركة في بنائها، وأوّل ما تمّ التخطيط له لبناء الإنسان العمانيّ، كان بالتعليم والثقافة، وهذا ما ستسير عليه القيادة العمانية المتمثلة بسلطانها هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد.

... إنَّ هذا التقدير والمكانة الطيبة عند كل دول العالم، لهو أهم الأرصدة المهمة في عصر عالم متقارب ومتداخل في مجالات التعاون في المجالات الاقتصادية والثقافية ومجالات الحفاظ على سياسة الحياد الإيجابي، وتقارب وجهات النظر تجاه المشكلات العالقة والخافتة؛ فبلادنا اليوم -بحمد الله- انتهجت سياسة رشيدة وحكيمة وعقلانية، وهذا المسار سوف يستمر -بإذن الله- لما تُمليه مصلحة عمان واستقرار العام ورفاهيته، كما قال جلالته في خطابه عند توليه مقاليد الحكم في 11 يناير 2020.