عُمان دولة لا تزول بزوال الرجال

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

يدور اليوم بيننا وفي الخارج كذلك، حديث همس وحديث جهر، عن مستقبل السلطنة على كافة الصُّعد، بعد رحيل السلطان المؤسس -المغفور له بإذن الله تعالى- السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- وتولي السلطان المظُفر -بعون الله- هيثم بن طارق المعظم لمقاليد الحكم في سلطنتنا الحبيبة، وإن كان الحديث في عصبه ومجمله عن الحكم والسُلطة في وطننا العزيز ومستقبلهما، وهو أمر محمود في مجمله وسلوك الأسوياء من البشر وظاهره صحية، وحالة تنم عن الوعي والوطنية والغيرة على الوطن بلاشك، ولكن ما هو غير محمود في الأمر، هو المبالغة والتهويل إلى حد الإرجاف والوساوس القهرية، وكأن سلطنتنا دولة مراهقة وطارئة على التاريخ أو تشكلت على عجل، وليس لها تقاليد ولا عراقة ولا نُظم تشريعية في تنظيم شؤون الحكم؛ الأمر الذي يستدعي كل هذا الهلع والفوبيا المرضية من المستقبل.

نتفهَّم صدور هكذا مخاوف من بعض العامة وبسطاء القوم والمراقبين عن بُعد من الذين يقيسون الأمور بمقاييسهم، والشامتين والمتربصين بنا، لكننا لا نتفهم ولا نفهم ولا نبرئ من ينسبون أنفسهم إلى النُخب، ويحسبون أنفسهم على المؤثرين في الرأي العام وتشكيل العقل الجمعي لمجتمعنا، والذين أصبحوا في المُجمل عبئا على الدولة والمجتمع بشططهم ومبالغاتهم واستيرادهم للأفكار والمخاوف بلا داع ولا مبرر ولا معنى. وبتصيُّدهم للمواقف واصطيادهم في المياه العكر لتسجيل نقاط لهم، وتحقيق مكاسب ووجاهة فكرية تُضاف لرصيدهم. وباختيارهم المواقيت غير المناسبة للحديث عن المناسب، فيزيدون الوهن وهنًا، والشتات شتاتًا ويجعلون الشمل تفرقًا. فدور المثقف -في العادة- هو البحث عن الحلول وليس البحث عن المشاكل وتقدير المواقف والظروف، فليس كل ما يُعرف يقال، ولا كل ما يقال هو الصواب بعينه، ولكن الانبهار وحده والتقليد الأعمى للآخر، أوجد لدينا مسخا فكريا كبيرا، ينذر بخلق واقع تحريضي خطير يقوده ويرسخه علية الفكر وصُناع الوعي، بوعي وبدون وعي في مسيرتهم التنظيرية، ورحلتهم نحو الأمجاد الشخصية والوجاهة الفكرية تحت تأثير المراهقة الفكرية والسياسية معًا.

الديمقراطية والمشاركة الشعبية الواسعة، لا تُهدَى ولا تُمنح لمجتمعات ينخرها الجهل والعصبيات والمذهبيات والمناطقية والهويات الفرعية، وفوق ذلك تقتات من التبعية وتعاني من مرارات الاستقطاب وآلاعيب الكبار ومصالحهم. فمجرد الحديث عن الديمقراطية والمشاركة الشعبية الواسعة وإطلاق الحرية والفكر بلا ضوابط في هكذا واقع ومناخ، هي في حقيقتها دعوات صريحة لتكريس كل هذه المظاهر والآفات الاجتماعية، وبعثها على السطح وشرعنتها وتأطيرها بالقوانين بزعم الانتصار للديمقراطية والامتثال لسُنن التطور، وهذا معناه المزيد من التشظي للدولة والمزيد من التصدعات والتشققات للمجتمع. وهذا ما لا يحلم به عاقل أو يدعو إليه أو يروج له.

بيننا وبين وطننا ووحدته ومصيره في التاريخ والأعراف وشائج محبة ووطنية وعقائد ومواثيق راسخة وعميقة برائحة التراب الطاهر وطعم الدم الزكي من التضحيات؛ فهو تحالف الدم والتراب، وهذا عهدنا مع التاريخ وعهد التاريخ بنا، وبيننا وبين وطننا المعاصر في النُظم والقوانين، نظام أساسي للحكم يُمثل خارطة طريق لا محيد عنها ولا اجتهاد مع نصوصه، ولا بأس أن نستعيد مواد "مصيرية" منه، لمن خانته الذاكرة من باب ذكر فإن الذكر ينفع المؤمنين.

وهي المواد (5) و(6) و(7) و(8) و(9) والتي تقول:

مادة (5): نظام الحكم سلطاني وراثي في الذكور من ذرية السيد تركي بن سعيد بن سلطان، ويشترط فيمن يختار لولاية الحكم من بينهم أن يكون مسلما رشيدا عاقلا وابنا شرعيا لأبوين عمانيين مسلمين.

مادة (6): يقوم مجلس العائلة المالكة، خلال ثلاثة أيام من شغور منصب السلطان، بتحديد من تنتقل إليه ولاية الحكم. فإذا لم يتفق مجلس العائلة المالكة على اختيار سلطان للبلاد قام مجلس الدفاع بالاشتراك مع رئيسي مجلس الدولة ومجلس الشورى ورئيس المحكمة العليا وأقدم اثنين من نوابه بتثبيت من أشار به السلطان في رسالته إلى مجلس العائلة.

مادة (7): يؤدي السلطان قبل ممارسة صلاحياته، في جلسة مشتركة لمجلسي عمان والدفاع، اليمين الآتية: "أقسم باللّه العظيم أن أحترم النظام الأساسي للدولة والقوانين، وأن أرعى مصالح المواطنين وحرياتهم رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه".

مادة (8): تستمر الحكومة في تسيير أعمالها كالمعتاد حتى يتم اختيار السلطان ويقوم بممارسة صلاحياته.

مادة (9): يقوم الحكم في السلطنة على أساس العدل والشورى والمساواة. وللمواطنين -وفقا لهذا النظام الأساسي والشروط والأوضاع التي يبينها القانون- حق المشاركة في الشؤون العامة.

... إنَّ ما يجب أن نفهمه ونؤمن به إلى درجة اليقين، هو أن الأوطان لا تُبنى بالنوايا الحسنة وحدها، ولا تقوى بالتشريعات والقوانين وحدها، ولا تُحمى بالجيوش والمؤسسات الأمنية وحدها، بل تُبنى وتقوى وتُحمى قبل كل ذلك بمدى الحس الوطني لأبنائها وعمق مشاعر الانتماء والوعي لديهم، فهذا هو صمام الأمان وسر القوة والوجود معًا. فبالمشاعر الوطنية العميقة والصادقة وبنبذ الأنا الصُغرى والالتفاف حول الأنا الكبرى؛ وهي الوطن والصالح العام، تقوى الأوطان ويشتد عودها ويترابط نسيج مكوناتها ويقوى وتُبسط التشريعات والقوانين، وتقوى العقائد العسكرية والأمنية وترتقي وتسمو. وهذا ما نحتاجه نحن كمواطنين وما تحتاجه عُماننا الحبيبة على الدوام وفي هذا الظرف التاريخي الدقيق على وجه التحديد.

يجب أن نؤمن كعُمانيين من نُخب وعامة ومن سائل ومسؤول، بأننا في هذه المرحلة من الزمن غير مؤهلين فكريًّا ولا سياسيًّا ولا اجتماعيًّا ولا اقتصاديًّا، ولو من باب التفكير التَّرَفي بمنظومة حكم غير التي ألفناها واعتدناها، بحكم الشرعية التاريخية والواقع المعاش. كما يجب علينا التسليم بأن مجرد التفكير بغير هذا وفي هذا الظرف التاريخي بالتحديد، هو قمار سياسي ورهان خاسر، وإهداء مجاني للخصوم والأعداء والشامتين باستباحتنا وتشظينا وتبديد كل مكتسباتنا وهدر كل ممكناتنا الحالية والمستقبلية. ولا يعني هذا الرضا التام عن كل الموجود ومخالفة سُنن التطور، ولكن من باب الإذعان للواقع ومعطياته والممكنات الحقيقية التي بين أيدينا اليوم والغد وسد باب الفتن والذرائع، فما كل ما يتمناه المرء يدركه.

من حقنا جميعًا كمواطنين على هذا التراب الطاهر أن نفكر ونتدبر في وطننا، فهذه حالة صحية بلاشك وواجب شرعي ووطني قبل ذلك، ولكننا يجب أن ينطلق تفكيرنا ويُبنى على أسس وطنية خالصة كذلك ولوجه الله والوطن لا لغيرهما. وعلينا أن نتدبر مليًّا وبعين العقل الصالح العام في شكله ومضمونه، فإدارة الأوطان ومتطلبات الحكم وقيادة الشعوب، ليست ترفًا ولا نُزهة ولا نظريات تُنسج في حالات سرحان واسترخاء.

وفي الختام، لا يسعني إلا أن أنتهز هذه الفرصة لأعبر -كما عبر العُمانيون جميعًا- عن إجلالهم وإكبارهم لمجلس العائلة الحاكمة الكريمة فردًا فردًا، والذين كانوا على مستوى الحدث والظرف وأكثر، ولمجلس الدفاع فردًا فردًا، الذين أدوا الأمانة على الوجه الأكمل، وبما يليق بعمان وتاريخها ومكانتها وتطلعات أبنائها. حفظ الله عُماننا الحبيبة بما حفظ به ذكره المُنزل العظيم من كل شر ومكيدة ومكروه، ورحم سلطاننا الخالد قابوس وتقبله مع الأصفياء الأنقياء من عباده، وأمد جلالة سلطاننا المُظفر هيثم بن طارق بن تيمور بالصحة والبصيرة والتوفيق والسداد، وأيده بالحق وأيد به الحق إنه نعم المولى ونعم النصير.

وبالشكر تدوم النعم...،

--------------------

قبل اللقاء: "يقول الأديب الكبير نجيب محفوظ: "إن الخوف لا يمنع الموت، بل يمنع الحياة". فلندع الخوف خلف ظهورنا ونبني الوطن، ونلتف حول قيادتنا بكل صدق ومحبة، ويقول الشاعر والمفكر الفرنسي فيكتور هوجو: "تبدأ الحرية حين ينتهي الجهل، فمنح الحرية لجاهل كمنح سلاح لمجنون".

أحبوا أوطانكم ولا تُشركوا بها شيئًا، فحب الوطن من الإيمان، والحب عمل وليس مشاعر فقط. ولنفكر في الموجود لا في المفقود.