"الحكمة عُمانية".. والحُكم سديد

 

مسعود الحمداني

 

رحل السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيَّب الله ثراه- إلى بارئه، بعد أن أفنى ما يقارب نصف قرن من عمره في خدمة بلده وشعبه، رحل بهدوء، وكان السؤال الذي حيّر الناس في حياته، هو: من سيخلف هذا الرجل الذي قلّ مثيله، وندرت صفاته الشخصية والسياسية؟

كان السؤال ملحّا، وراسخاً في أذهان العالم، فهذه الدولة المسالمة لا وليّ عهد لها، والنظام الأساسي أشار إلى آلية تنصيب حاكم جديد، وفق معايير معينة، وهناك وصيّة أوصى بها جلالته، لا يعرف حتى الأقربين ما فيها، غير أنها تحوي (اسما) ما، لشخص ما، من العائلة المالكة الكريمة، يراه السلطان الراحل هو الأنسب لقيادة البلاد من بعده، ويثق في قدراته، وصفاته القيادية.

وتوقّع المتوقعون، وخمّن المخمنون، ووضع البعض أسماءً بعينها، واستبعد آخرون أسماء أخرى، وحين حان الأجل المحتوم للسلطان قابوس- طيب الله ثراه- ظهر نُبل العائلة الحاكمة، وبُعد نظرها، وتبجيلهم وتوقيرهم للسلطان الراحل، ثقة منهم بأنَّ من سمّاه قابوس بن سعيد خليفة له في رسالته، هو الذي لن يختلف عليه اثنان، وجاء اسم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور- حفظه الله ورعاه- ليقود البلاد في هذه الظروف الاستثنائية، فاطمأنت قلوب العمانيين، وأدهش هذا الأسلوب الفريد والانتقال السلس وغير المعقد للسلطة العالم، وحُل اللغز الذي حيّر الناس طيلة سنوات وسنوات.

جاء السلطان هيثم بن طارق- أبقاه الله- بخطىً واثقة، وألقى خطابه التاريخي والمفصلي، قرأه بنبرة ثابتة رصينة، ولغة واضحة لا مكان فيها للتأويل، مغالباً حزنه على الفقيد الراحل، محتفظاً برباطة جأشه كقائد للأمة، وأكد جلالته على السير على الثوابت السياسية التي أرساها السلطان قابوس بن سعيد طيلة أعوام حكمه، والتي هي منهج يجب تدريسه لكل دول العالم، وتناول في خطابه- حفظه الله- الخطوط العريضة، والنهج الثابت الرصين الذي ستسير عليه الدولة، والتي جنّبت السلطنة في الماضي الكثير من المآزق، والكوارث، وأخرجتها من تبعية القرار العربي، إلى سياسة الحياد والاستقلالية التي لا مكان فيها للمُزايدات، والمُهاترات.

كان خطاب السلطان هيثم بن طارق- أيّده الله- بمثابة الماء الذي صُب على القلوب، وتلقفه العمانيون بالترحيب، وطمأنهم على المستقبل، وأنار لهم ما غُمّ عليهم، بل وكانت تلك الكلمات المؤثرة عزاءهم في وفاة السلطان الراحل- طيّب الله ثراه- ورأوا في سلطانهم الجديد خير خلف لخير سلف، فاستقرت نفوسهم، ولم يترك هذا الانتقال السريع للحُكم مجالاً للتخمينات، والتأويلات، والقيل والقال التي كان يمكن أن تظهر عند بعض المغرضين، لولا حكمة العائلة الحاكمة الكريمة، والتفافهم على قيادتهم، وتأييدهم له، إلى جانب الكاريزما القيادية التي يتمتع بها السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله- والسمات الرزينة التي تربّى عليها.

إنَّ عُمان حالة فريدة واستثنائية في هذا العالم المرتبك، الذي يموج بالفتن، والحروب، والكوارث، وهي درس في العقلانية والواقعية السياسية التي يفتقدها الكثيرون، وحالة خاصة من الاستقرار الداخلي المتصالح مع ذاته، وفي جملة من المبادئ والقيم الرفيعة التي لم تفارق الحكمة العمانية، ولعل مشهد الوفود التي توافدت إلى السلطنة زرافات ووحدانا من شتى دول العالم يؤكد ما تتمتع به السلطنة من مكانة وقيمة، وكان في تحامل بعض القادة الخليجيين على نفوسهم لتقديم واجب العزاء بالغ الأثر في مُواساة الشعب العماني في مصابهم الجلل في وفاة قائد قلّ نظيره، وحكيم قلَّ مثيله، ولا ريب أن السلطان هيثم بن طارق- أيّده الله ووفقه لحمل الأمانة- جدير بهذه التركة الثقيلة، وسيكمل المسيرة التي بدأت قبل خمسين عاماً، والتي ستظل شعلتها متوقدة إلى أبد الآبدين- بعون الله- فله والولاء والطاعة من شعبه الوفي، ولنا فيه حسن العزاء لقائدٍ عظيم- طيّب الله ثراه-.