غاز شرق المتوسط (1- 2)

 

عبيدلي العبيدلي

في مطلع العام 2020، وتحديدا في الثاني من شهر يناير الجاري، وافق البرلمان التركي، على طلب الرئاسة التركية المتضمن إرسال جنود إلى ليبيا. واستند أردوغان في ذلك على اتفاق تعاون عسكري، سبق أن وقعته تركيا مع "حكومة الوفاق الوطني الليبية". وجاءت موافقة البرلمان التركي هذه استنادا إلى "مذكرتي تفاهم وقعتهما أنقرة وحكومة الوفاق الوطني الليبي، في 27 من نوفمبر 2019، تتضمن الأولى ترسيم الحدود الملاحية في البحر المتوسط، بينما تتناول الثانية التعاون العسكري والأمني بين الطرفين". وبالفعل سارع أردوغان إلى إرسال طلائع قواته إلى ليبيا.

البعض رأى في تلك الخطوة التركية جزءا من سياسة تركيا الحالية التي تحاول أن تعيد أمجاد الإمبراطورية العثمانية، لولا أن توقيتها جاء -ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة المحضة- قبل عدة أيام من "موعد مؤتمر في برلين بشأن الصراع الدائر في ليبيا".

وهذا ما جعل صحيفة مثل "أوك دياريو" الإسبانية تسارع، دون الحاجة لأية مقدمات، إلى الاستنتاج "إن الطمع في ثروات غاز شرق البحر المتوسط هو السبب الرئيسي وراء محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غزو الأراضي الليبية، مؤكدة أن ما تحاول أنقرة الترويج له بأن تحركها يهدف لدعم ما يعرف بـ(المجلس الرئاسي) في ليبيا، لا يعكس الحقيقة".

 من جانبه لم يحاول أردوغان، أن يخفي تلك العلاقة بين غاز شرق المتوسط، وقراره بإرسال تلك القوات، فوجدناه يقولها صراحة "أن بلاده ستستمر في استخدام كل الوسائل الدبلوماسية والعسكرية لضمان الاستقرار إلى الجنوب من أراضيها بما في ذلك ليبيا، (مضيفا) إن تركيا ستبدأ في منح تراخيص للتنقيب والحفر في شرق البحر المتوسط العام الحالي، تنفيذاً لاتفاق بحري أبرمته مع حكومة الوفاق الليبية".

ولعل أول ما يتبادر إلى ذهن من يتابع هذا القرار التركي، وسرعة تنفيذه هو ما هو حجم وكميات هذا الغاز، وما قصة الصراعات التي بدأت تنشب حول حقوق استغلاله؟

تاريخ حقول ذلك الغاز ذلك قديم، لكن أقرب مبادرة لها علاقة باستغلال حقول ذلك الغاز الذي أصبح يعرف بـ (غاز شرق المتوسط) تجاريا هو مطلع العام 2019، عندما اتفقت 7 دول متوسطية على إعلان إنشاء ما أطلق عليه "منتدى شرق المتوسط للغاز (EMGF)، واختيرت القاهرة مقرا له". وينتسب لهذا المنتدى سبع دول هي مصر وإسرائيل وفلسطين والأردن وإيطاليا وقبرص واليونان. وقد تقدمت دولتان هما فرنسا والولايات المتحدة من أجل نيل عضوية هذا المنتدى.

ولا بد من الإشارة هنا إلى شركة غاز شرق المتوسط "East Mediterranean Gas – EMG"، وهي شركة مشتركة تأسست في سنة 2000. " تملكها الهيئة العامة للبترول المصرية بنسبة (68.4%) والشركة الإسرائيلية الخاصة مرحاڤ بنسبة (25%) وشركة أمپال-إسرائيل الأمريكية. بنسبة (6.6%). الشركتان الأخيرتان يملكهما رجل الأعمال الإسرائيلي يوسف مايمان، ضابط المخابرات السابق في الموساد".

لكن "مصادر أخرى تعطي قائمة مختلفة من الشركاء: كولتكس (جزر ڤرجين البريطانية) 10%، الشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي 10%، خط أنابيب الشرق الأوسط (هولندا) 20%، حسين سالم 20%، غاز الشرق الأوسط (جزر العذراء البريطانية) 20% وفورداس پرنامانيان 20%."

وقد هاجمت تركيا هذا المنتدى، واعتبرته، كما جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية التركية حامي أقصوي، إن تحويله "إلى منظمة دولية، بعيد عن الواقع. وأضاف، إن إنشاء المنتدى جاء بدوافع سياسية لإخراج تركيا من معادلة الطاقة في شرق المتوسط، مضيفا أنه لو كان الهدف الحقيقي من المنتدى هو التعاون، لتمت دعوة كل من تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية إليه".

ولكي يدرك القارئ مدى أهمية حقول غاز شرق البحر المتوسط نحيله إلى ذلك التقرير الذي نشرته مجلة "ماكلاتشي" الأمريكية المتخصصة في القضايا السياسية الذي أكدت فيه على أن خلفية حقول الغاز في شرق البحر المتوسط، تنطلق "من خريطة معلقة في البيت الأبيض منذ عهد باراك أوباما، تعكس خطة استراتيجية تسعى إدارة دونالد ترامب لإعطائها زخماً جديداً من خلال رعاية تحالفات شرق متوسطية في مجال الطاقة تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية كبرى". وكما جاء في ذلك التقرير فإنّ "كبار مساعدي الأمن القومي في إدارة الرئيس دونالد ترامب يعتقدون أن خريطة الطريق المقترحة للسلام في الشرق الأوسط رُسمت على أساس خريطة معلّقة في البيت الأبيض، وتشير إلى محطات الطاقة ومحطات الغاز ومشاريع خط الأنابيب الطموحة".

ووفقا لدراسة أعدت في العام 2010، فإن "حوض شرق البحر المتوسط، يحتوي على 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، و1.7 مليار برميل احتياطي من النفط، وإن كانت بعض المصادر توقعت أرقاما أعلى. كما أعلنت وزارة البترول المصرية مؤخرا عن "ارتفاع إنتاج حقل ظهر للغاز إلى 2.7 مليار قدم مكعب يوميا".

ووفق لهذه التقديرات التي نشرتها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، وأخرى غيرها "فإن حوض شرق المتوسط يعد من أهم أحواض الغاز في العالم، إذ أنّ المنطقة تعوم فوق بحيرة من الغاز تكفي لتلبية حاجة سوق أوروبا لمدة 30 عاما، والعالم لمدة عام واحد على الأقل".

مثل هذه الكميات الهائلة من الغاز المستكشف، تفسر ذلك الاتفاق الذي وقعت في مطلع يناير 2020 بين كل من قبرص واليونان وإسرائيل في العاصمة اليونانية أثينا من أجل بناء "خط أنابيب شرق المتوسط" (إيست ميد)، البالغ طوله 1872 كلم سيتيح نقل ما بين 9 و11 مليار متر مكعب من الغاز سنويا من الاحتياطيات البحرية لحوض شرق المتوسط قبالة قبرص وإسرائيل إلى اليونان وكذلك إلى إيطاليا ودول أخرى في جنوب شرق أوروبا". وتقدر تكلفة المشروع الذي يصل إلى إيطاليا بـ 6 مليارات يورو.

لذلك فمن الخطأ القاتل، حصر تصعيد حدة الصراعات التي باتت تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وخاصة ذلك الجزء الذي يمس بشكل مباشر تلك البلدان المطلة على سواحل شرق البحر الأبيض المتوسط في نطاقها العسكري فحسب، ولا حتى السياسي فقط، بل ينبغي لمن يتابع الصراعات المحتدمة في المنطقة أن يلجها أولا من أبواب مصادر الطاقة التقليدية، مثل النفط والغاز الطبيعي، كي يتسنى له تفكيك ألغاز ذلك التصعيد المتواصل لما يزيد، في تاريخه المعاصر، على ربع قرن من الزمان.