يحقُّ لنا كعُمانيين أن نفخرَ بهذا الوفاءِ

 

د. صالح الفهدي

 

يومُ السبتِ الثالثِ عشر من جمادى الأولى لعام 1441 هـ الموافق الحادي عشر من يناير لعام 2020 م  يومٌ لا ينساهُ التاريخُ العمانيُّ، ولا ذاكرةُ الإنسانِ العماني، فهو يومٌ وُري فيه الثرى الجثمان الطاهر لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظَّم –رحمةُ اللهِ ورضوانه عليه-، وهو يومُ تنصيبِ جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظَّم – حفظه الله ورعاه- سلطاناً على عمان.

في هذا اليوم، ضربت عمانُ دروساً حقَّ لأبنائها أن يفخروا بها، لأنها دروسٌ لم تخلُقها اللحظة، ولم يصنعها الحدث، وإنَّما هي وليدةُ التاريخ، وصنيعة الإرث المتراكم عبرَ دهورٍ مديدة.

دروسٌ عظيمةٌ في صلابةِ النُّفوس التي لا تتزعزعُ مع هولِ الصدمات، وضخامة الخطوب، فهي صلبةٌ، عتيَّة، يتجلَّى فيها "السَّمتُ العمانيُّ" المشهودُ في الشخصية العمانية، ويتعالى فيها الشموخ الإِنساني الذي زادهُ الإيمانُ باللهِ كبرياءً، وأترعهُ الرضى بالقضاء والقدرِ سكينةً.

لا تُعرفُ روح الأُمم إلا في مثلِ هذه المواقف التي تُذهلُ العقلَ، وتُربِكُ البصيرة، وتُحزنُ النَّفس، فالمواقفُ في تاريخِ الشعوبِ هي براهينُ الحضارة، وشواهدُ الهُوية، لأنها امتحانٌ واقعي على أصالته، وقد كانت روحُ العمانيين في نصوعها التَّام أمام أنفسهم أولاً، ثم أمام العالم في ذلك اليوم المشهود.

وبذلك يحقُّ لنا نحن العمانيون أن نفخرَ بأنَّا *صنيعة التاريخِ *لا صنيعة الحدث الذي يأتي طارئاً، عارضاً، والفرقُ: هو أن الأوَّل أصيلٌ لا يتداعى، أمَّا الثاني فهو راجفٌ، يتهاوى. الأول صامدٌ متماسكٌ، أما الثاني فهو خائرٌ متلبِّك.

ولأنَّنا صنيعة التاريخ فقد كنَّا عُلاةُ القامات، شامخو الأجْبُن، رافعو الرؤوس؛ تقبَّلنا الحدثَ على هولهِ بإيمانٍ وسكينةٍ، وتماسكنا كشعبٍ عريقٍ كروحٍ واحدة، وبحنا بنفسٍ واحدٍ، وشعورٍ واحدٍ كأنَّما كنَّا في هذا الموقف العصيبِ إنساناً واحداً، ووالله إنا لكذلك كنَّا.

يحقُّ لنا كعمانيين أن نفخرَ بأن نكون – حتى وقلوبنا تبكي، وأدمعنا تذرف - أهلُ نظامٍ يعبِّرُ عن أنفسٍ رفيعةٍ تنفرُ من الفوضى، وعقولٍ راقية تأنفُ عن الهرجِ والمرج، فسارَت كلُّ المراسمِ في مهرجانٍ شعبيٍّ كأنَّنا تدرَّبنا عليه مراتٍ ومرَّات، بيد أننا لم نكن لنحتاج إلى ذلك المِران لأن النظامَ قد خُلقَ فينا، وأننا نرى الحياةَ رؤية العقد المنظوم.

يحقُّ لنا كعمانيين أن نفخرَ بهذا الوفاءِ الذي تناهى من أنفسنا لقائدٍ أحببناه منذ أن عرفنا معنى الحب، وعشقناه منذ أن عشقنا عمانَ، فقد رأينا صورة عمان في كلِّ تجلياتها فيه، فلم تفتأ أقلامنا تسكب، ودموعنا تسكب، وحناجرنا تنحب، وأدعيتنا تنسرب، فما صورةُ الوفاءِ إن لم يكن ذلك؟

يحق لنا كعمانيين أن نفخر بالولاءِ الذي أعليناهُ لسلطاننا الجديد فهو على النهجِ الرشيد، الذي اختطَّه القائدُ المجيد، وما ذلك الولاءُ منَّا على خوفٍ أو وجَلْ، فما كان العمانيِّ كذلك في تاريخه، وإنَّما هي القناعةُ الرَّاسخة بسلامةِ المنهج السديد، والإيمان بالمنطقِ السديد.

يحقُّ لنا كعمانيين أن ارتقينا فوقَ هرطقةِ الكلام، وهذيان اللئام، تواصينا على التلاحم، وتعاهدنا على الثباتِ والتناغم، فكنَّا سوراً شاهقاً متماسكاً، ولم ندع للمندسِّين من أهل الفتنةِ مجالاً -ولو كَسُمِّ الخِيَاطِ- ، يبدِّلُ به حالاً، ويغيِّرُ به مآلاً، فنِعمَ القومُ كنَّا، فما ذُللنا ولا هُنَّا.

هكذا نرى أنفسنا كعمانيين في مثل هذه الأحداث؛ روحاً عليَّة، ونفساً أبيَّة، وصورةً جليَّة، لا تصنَّعَ فيها ولا تكليف، ولا خداعَ ولا تزييف، وإنَّما نحنُ هكذا منذ أن كنَّا على هذه الأرض بُناةُ مجدٍ، ورعاةُ عهدٍ.. وسنظَّلُ كذلك بهذه القيم السامية إلى أن يشاء الله.

وسيبقَى فخرنا بأنفسنا ما تمسَّكنا بقيمنا الأصيلة، ومبادئنا النبيلة، فذلك والله ثراءُ الأمة، وكنزها الحقيقي.