كم أوجعنا رحيلك مولاي المعظم

 

سارة بنت علي البريكية

لم أكن أتخيل أنني سوف أكتب يوما هكذا مقال؛ لكن القدر فوق كل ما نريد، لم أكن أتوقع أنّ عمان في هذا التوقيت ستصبح بلا روح بلا طعم بلا وطن بعدما فقدت بانيًا ومعلي كلمتها، نعم فقد كان وطننا وسراجنا المنير وسيبقى، كان حبيبنا وسيظل، لقد قدر لنا نحن أبناء عمان أن نعيش العاشر من يناير، وأن نكون فيه أحياء لنتضرّع ونرفع فيه أكف الدعاء إلى الله تعالى بأن يرزق مولانا الراحل جلالة السلطان قابوس المعظم الصحة والعافية، ووقتها لم نكن نعلم بأنه في عليين.

 يوم الجمعة قبل الماضي كانت دعواتنا في صلاتنا في مختلف مساجد وجوامع السلطنة، بأن يشفي الله جلالته، وأن يخفف عنه متاعبه وأوجاعه، إلا أنّه وفي مسائها كان مع الرفيق الأعلى، ذلك اليوم استشعرنا بأنّه مختلف، إذ العيون جافاها النوم وبقيت في خوف ووجل، والصمت الآدمي كان يلفه، والهدوء الذي أعقبته موجة حزن عارمه كان يطبق عليه، وكانت الأجواء المسائية والليلية تتناوب عليها في تغيّرها وتبدلها بشيء كان يدعو للدهشة والاستغراب، البرد وشيء من الرياح البسيطة كانت تضرب هنا وهناك، مُحدثةً دويًّا وأصواتا مرعبة خفيفة، وحالات انتشار لما على الأرض من بقايا أشياء صغيرة، كانت تشير إلى أنّ أمرا غير طبيعي حدث ويحدث.

مرّت الجمعة بليلها المرعب ولم نكن نعلم بأن حبيب قلوبنا غادرنا وودعنا وأنّ روحه قد فاضت إلى بارئها وصارت إلى الرفيق الأعلى، كان كل شيء سبق ذلك في حالة هدوء، حتى الأفواه التي كانت تعلم لم تقوَ على البوح، قبل الإعلان عن المصاب الجلل الذي أصابنا، كان كل شيء معلق لم يتح له أن ينتشر، كل شيء كان محاطا بالسرية التامة، فعربات الجند تلك وسيّاراتهم وناقلاتهم التي انتشرت في الطريق المؤدي إلى الجامع الاكبر، لم تخف أنّ ثمة أمر وخطب جسيم وجلل قد وقع، فوجودها في تلك الساعات المتأخرة كان مخيفا.

ينشق فجر السبت ويأتي النبأ المخيف والإعلان الحزين والمحزن مفاده أنّ مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس تغمّده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته في ذمة الله، نعم كانت الساعة الرابعة فجرا عندما فُجعنا وصُعقنا بالخبر الذي هزّنا وحمله لنا البيان الصادر من ديوان البلاط السلطاني ينعي فيه جلالته تغمّده الله بواسع رحمته، عقب ذلك توالت الأخبار مؤكدة عما أذيع ونشر، لتفجع عمان من أقصاها إلى أقصاها بموت سيدها وولي نعمتها أنار الله مرقده وجعله مع النبيين والصديقيين، التلفزيون قطع بثه، ورسائل النعي والعزاء في وفاة مولانا توالت.

لقد رحل جلالته عن دنيانا جسدًا ولم يرحل عنّا فكرًا ولا روحا ولا عطاءً ولا اسما ولا حبا، هذا الرجل أحببناه حبا لا يمكن وصفه في هكذا سطور، فقد صنع لنا مجدا وعزًا وكرامة شهد بها القاصي قبل الداني، وأقام لنا دولة عصرية مكتملة الأركان، وأوجد لنا بلدًا حظي باحترام العالم أجمع، وجعل من الإنسان العماني محل تقدير واحترام، وشخصية متعلمة مثقفة ملتفة خلف قيادتها.

حقيقة في هذا المقام أقول شكرًا لأولئك المخلصين الأوفياء الأقوياء المقربين من جلالته رحمه الله على قوة صبرهم وتحملهم وتماسكهم، فقد كانوا أكثر قربا منه في كل شيء، ففعلا قلوبهم مليئة بالإيمان عامرة بالشجاعة والإقدام، إذ سُجي بينهم وغُسل وكفن بينهم، وهم صابرون صامدون متوحدون محتسبون، فشكرا لهم.

جلالة السلطان قابوس تغمّدك الله بواسع رحمته وأسكنك فسيح جناته، رحلت عنا جسدا وباقٍ فينا حيا إحساسا وشعورًا ونهجا، إذ بكيناك كثيرا وأثرت فينا كثيرًا، ولا نملك إلا الدعاء وأن نقول إنّا لله وإنا إليه رجعون، معاهدينك مولاي بأننا سنحافظ على ما ائتمنتنا عليه جنبا إلى جنبا وصفا واحدًا مع خليفتك جلالة السلطان المعظم هيثم بن طارق بن تيمور حفظه الله وسدد على طريق الخير خطاه، من أجل أن تبقى عمان كما أردتها شامخة صامدة دولة مؤسسات وقانون، وبلد مزدهر ينعم بالخيرات ومؤثر في الساحة الداخلية والخارجية، والله نسأل أن يمتعنا بالصبر، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأعاننا جميعا بعدك على حمل الأمانة وأن نكون عند حسن الظن والثقة.

مولاي وسيدي وأبي قابوس إنني ومنذ أن تلقيت ذلك الخبر وأنا أعيش في صدمة لا أعرف متى سوف أخرج منها، ليس أنا فحسب بل العالم أجمع، الذي خسر رجل السلام الرجل الذي لن يجود الزمان بمثله الرجل العظيم الأعظم، فأي حالة نحن بها وأي فقد نعيشه وأي حزن يعترينا؟!