تزهو بك الأعوام عامًا بعد عام


د. سمير محمود
منْ يبكيك يا قابوس بعد الرحيل؟
يبكيك يا سيدي الحجر قبل البشر، وكيف لا وقد روضته قبل عقود حين شققت الجبال، وحولت الصخور الصلدة إلى شبكة من الطرق الممهدة، في وقت ظن البعض أن ذلك من ضروب المستحيل!
يبكيك الطير في سماوات الله الرحبة، وفوق سماء عمان يحلق حزينًا، يغرد أنينًا على رحيل حمامة السلام.
يبكيك شباب ورجال ونساء وشيوخ وأطفال عمان، وقد صدقت عهدًا قطعته على نفسك بإسعادهم قبل نصف قرن، منذ توليت الحكم فكانت أولى كلماتك في بيانك التاريخي الأول يوم 23 يوليو 1970:" أيّها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل... لقد كان بالأمس ظلامًا ولكن بعون الله غدًا سيشرق الفجر على عمان وعلى أهلها".
الحقائق والأرقام المحلية والعالمية تؤكد صدق العهد والوفاء بالوعد، فشعب عمان من أسعد شعوب العرب وأكثرهم إسعادًا وحفاوة بالمقيمين على أرضها والزائرين لها.
تبكيك المرأة العمانية بكل حرقة، وكيف لا وقد عززتها ووفرت لها فرص التعليم والعمل، فصارت شريكًا فاعلًا في جميع مفاصل الدولة، سفيرة ووزيرة وقائدة طائرة تحلق فوق سماء الدنيا، وأستاذة ومعلمة وعضوًا في مجلس الدولة، وطبيبة وعالمة وأديبة وإعلامية وفنانة، وهي قبل هذا كله، ومع تلك الأدوار والمهام كلها، أم وزوجة وربة منزل، ترعى بيتًا وزوجًا وذرية رضعت عشق تراب الوطن.
يبكيك الشيوخ والعجائز، يبكيك الأطفال الذين أحبوا والدًا وقائدًا بحجم وطن!
لكن ترى هل يبكيك الشباب الباحثون عن عمل وهم كُثر؟ وهل يبكيك المُسرحون من أعمالهم؟ نعم يبكونك بكل أسى، يا من خاطبتهم في يوم الجمعة في جامع السلطان قابوس بنزوى يوم 27 فبراير 1989:" واعلموا أنّ الحضارات لا تقوم إلا إذا توفرت لها المقومات الأساسية وعلى رأسها حب العمل بين الأمة الواحدة".
سيدي، هل يبكيك الخصوم؟
... خصوم! ومتى كان لك على هذه الأرض خصوم!
الوافدون والمقيمون بكوا في ابتلاء مرضك حبًّا وكرامة، لا خوفًا وطمعًا، وفي محنة فقدك اتشحت صفحاتهم بالسواد في جميع حسابات مواقع التواصل الاجتماعي - نافذتنا على العالم الآن- وكيف لا وكل من يعيش بعمان يشعر بأنه في أحضان وطنه، لا تمييز بين مواطن ومقيم، لا فرق بين عربي وغربي، الكل سواء في الحقوق، يظلهم ويحميهم نظام جوهره العدل وأساسه محبة الجميع.
الأبيض والأسود، السني والشيعي والإباضي ينتحبون على الفقد الكبير والمصاب الجلل، وكيف لا وهم يؤدون الصلوات نفسها معًا في الجامع نفسه، في هدوء وسكينة وقد انصهرت أراوحهم جميعًا لله، في بوتقة المحبة والتسامح التي صنعها وحافظ عليها باقتدار حكيم العرب قابوس.
أيبكيك أهل شمال عمان في شناص ومسندم، أم يبكيك أهل الجنوب في محافظة ظفار؟ الكل يبكيك، فمعك ذاب الشمال في الجنوب، وتلاشت الحدود، حين صنعت جغرافية خاصة لأبناء عمان، جغرافية تحتوي الجميع دون تمييز، جغرافية جعلت من الشعب العماني الطيب أيقونة عالمية في التسامح والأخلاق واللحمة الواحدة، جغرافية محفورة إلى الأبد في وجدان الشعوب وذاكرة التاريخ.
يليق بكل من عاش على أرض عمان أن يبكيك، كما يبكيك من غادرها، حتى أولئك الذين لم يحالفهم الحظ بالعيش فيها، أو أولئك الذين سمعوا عنها، يبكيك العالم بأسره، وكيف لا وكل دول العالم هي عندك إما دول شقيقة أو صديقة؛ إذ كنت دومًا تنأى بعمان عن صراعات العالم، وتنأى عن الزج بها في الخلافات العربية والإقليمية، وتقف بحكمة على الحياد، فحفظت لعمان سيادتها بيد، ومددت يدك الأخرى بالسلام للمتناحرين، فكيف لا يبكيك العالم... قادته وشعوبه، وقد أعطيتهم على مدى خمسة عقود، دروسًا بليغة في الحكم والسياسة؛ إذ غدت عمان بلدًا ناهضًا وواحة سلام عالمية، وجسرًا آمنًا لنبذ الصراع وحل الخلافات الإقليمية والدولية، ومحطة مهمة لتهدئة العلاقات المتوترة، سواء أكانت بين الأشقاء العرب أم بين إيران وأمريكا وقوى العالم العظمى.
نبكيك يا سيدي وقد تركت عمان بلدًا قويا أبيا متماسكا، لا يهزه المحن ولا تعصف به النوائب والأزمات، أبسط مثال على ذلك ما تعرض له من كوارث طبيعية من وأعاصير وغيرها، فتلك مدرسة الصبر العمانية، التي تحول شعب عمان كله إلى كتلة واحدة تلتف خلف قيادتها، لتتصدى في صمت للمحن وتعبر الصعاب بعزة وكرامة وإرادة لا تعرف المستحيل، لهذا سيدي، بشراك أرواح الجميع بلا ثمن.
رحم الله السلطان قابوس بن سعيد، ووفق خلفه السلطان هيثم بن طارق لمواصلة مسيرة بناء عمان ونهضتها.


Drsamir33@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك