هذا الانتقال الحضاري المتفرد!

عبد الله العليان

في 6 نوفمبر 1996، صدر النظام الأساسي للدولة، والمعدَّل في بعض بنوده في العام 2011، والذي يعدُّ بمثابة دستور للبلاد؛ حيث حُدِّدت فيه سياسات البلاد داخليا وخارجيا، في كل المجالات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والقانونية، ومن هذه الموجهات لسياسة الدولة في السلطنة، التي وضعها جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- وصية من تنتقل إليه ولاية الحكم بعد انتقاله إلى رحمة الله، طبقا للمادة الخامسة؛ حيث حددت المادة السادسة من النظام الأساسي للدولة طريقة الاختيار؛ حيث نصت: "يقوم مجلس العائلة المالكة، خلال ثلاثة أيام من شغور منصب السلطان، بتحديد من تنتقل إليه ولاية الحكم. فإذا لم يتفق مجلس العائلة المالكة على اختيار سلطان للبلاد، قام مجلس الدفاع بالاشتراك مع رئيسي مجلس الدولة ومجلس الشورى ورئيس المحكمة العليا، وأقدم اثنين من نوابه بتثبيت من أشار به السلطان فـي رسالته إلى مجلس العائلة". والحقيقة أن نص الوصية السرية، التي أرادها السلطان العاهل الراحل كانت محل التحليلات والتوقعات وحتى منها التخوفات، من مسألة فراغ السلطة في عُمان، لمدة ثلاثة أيام -كما هي رؤيتهم- لكنها الوصية طرحت حرية الاختيار لمجلس العائلة الكريمة، في اختيار حر بينهم، لمن تنتقل إليه ولاية الحكم بعد فراغ السلطة، ومع أنه -رحمه الله- لم يفرض من توسم الخير والصلاح لانتقال الحكم إليه، لكنه يظل خياراً إيجابياً للعائلة المالكة ووفق تقديرهم، وأتذكر أنه وبعد صدور النظام الأساسي للدولة، كما جاءت موادها -كما أشرنا إليها- أن مجلة عربية مهاجرة صدرت في 12 ديسمبر 1997، بعنوان كبير على غلافها: "سلطنة عُمان: ماذا بعد السلطان قابوس؟".

وكان حواراً عن عُمان ومستقبلها، دار بين رئيس تحرير هذه المجلة المهاجرة، في باريس، وبين أحد السياسيين الأمريكيين الكبار، في فترة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، وتم هذا الحوار في أحد المقاهي على نهر "المارن" القريب من العاصمة الفرنسية باريس، ومما دار في هذا الحوار -الذي تركز على مستقبل السلطنة، أو ما أسمته المجلة في صفحة الحوار: "مستقبل حارس مضيق هرمز مثار تساؤلات وقلق"- وكانت مقدمة الحوار عن حادث السيارة الذي تعرَّض له السلطان الراحل ومرافقيه في صلالة عام 1995، ثم سأله هذا الصحفي، عن أهمية السلطة وموقعها الجغرافي المهم في المنطقة.. فرد هذا السياسي الأمريكي عليه قائلاً: بالفعل كانت سلطنة عُمان في عهد السلطان قابوس بن سعيد، ولا تزال، نموذجاً للبلد الذي يملك رؤية واعية ودقيقة للمستقبل. وسياسة السلطان قابوس مثال لسياسة الحاكم العاقل والمعتدل الذي يتمتع بحكمة وبعد نظر.."، وأعرب هذا السياسي الأمريكي الكبير، في حديثه لهذا الصحفي، عن تقديره واحترامه لما أحدثه السلطان الراحل -عليه رحمة الله- من نقلة نوعية في عُمان.. وفي عنوان: "من يخلف السلطان؟"، انتقل الحديث إلى ما أسماه هذا السياسي بمصدر القلق على هذا البلد المهم في المنطقة، فقال: "مصدر القلق ليس من الحاضر بل من المستقبل (:)، وذلك لسبب أساسي ووجيه وهو موقع عُمان على بوابة الخليج وحرصنا على "حارس مضيق هرمز"،  وأهمية ضمان الاستقرار في هذا البلد". ثم سأله هذا الصحفي العربي عن وصية السلطان قابوس السرية كما جاء في النظام الأساسي، لمن يخلفه في الحكم؟ وما هي وجهة نظره كما يراها؟ فقال: "الحقيقة أن السلطان لم يُعيِّن رسميًّا بعد أي ولي للعهد، ومجلس الدفاع لا يعقد أي نوع من الاجتماعات إلا في حالة فراغ السلطة (:) لأن الانتظار إلى ما بعد ذلك يفتح الباب أمام رهانات وافتراضات وسيناريوهات قد تكون خطيرة".. ثم أردف هذا السياسي قائلًا: "وكل هذا يعطينا فكرة مخيفة عن حجم الفراغ الذي قد يتركه السلطان قابوس وبالتالي حجم المخاطر".

والحقيقة أنَّ هذه التوجسات والتخوفات والافتراضات، سقطت أمام هذا النموذج المتفرد في انتقال السلطة في ساعات قلائل، لجلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد -حفظه الله ورعاه- وبطريقة فاجأت العالم كله؛ لأنَّ الإرث الحضاري العماني تقدم على كل التوقعات، وجعلها مجرد افتراضات، بعيدة عن واقع عُمان، ولا تعرف هذا النسيج الفكري، الذي يملك الرصيد الحضاري المتراكم؛ فكان التعاطي مع الحدث رائعاً ومتماسكاً بحمد الله وتوفيقه، والحقيقة أنني احتفظت بهذا العدد لما يزيد على 23 عاماً عن صدوره، والذي كان ضمن تساؤلات طرحها هذا الصحفي على هذا السياسي الأمريكي، ومثل هذه التساؤلات، كنا نسمعها ونقرأها في بعض الكتابات العربية والأجنبية، وقد سألت، وسئل غيري، من الكثيرين، من الباحثين والمهتمين بالسلطنة، عن مسألة الوصية السرية وأغلبهم حقيقة من حبهم وتقديرهم لهذا البلد وقيادته؛ لذلك فإنَّ مجلس العائلة الكريمة، رأى في وصية جلالة السلطان قابوس، لمن يخلفه في الحكم، هو ذلك الخيار الأنسب، وتقديراً وعرفنا لمكانة السلطان الراحل لديهم، وهذا نموذج للحكمة والعقلانية أيضًا، وتقديم المصلحة الوطنية، في انتقال السلطة في سلاسة، دون إبطاء أو تأخير، كما أن الوصية منه -رحمه الله- كما عرف عنه الحكمة والرؤية الثاقبة، التي عرف عنه العالم كله، لهو الأفضل والأصلح، وهي بحق كذلك بحمد الله وتوفيقه.