أنوار الحكمة لا تنطفئ..

50 عاما من الاستشراف القائم على الرؤية الثاقبة والتحليلات المعمَّقة لتأصيل مُوجِّهات بناء الدولة العصرية الحديثة

 

صَفَحاتُ المرءِ مَحدودةٌ بَمشيئةِ الله.. تُرفعُ الأقلام بخِتامِ سُطَورها، وتجفُّ الأحبار، ويَبقى بَوْحُ أسرارِها هو الحُجَّةُ الناطقة، والبرهانُ الساطع الذي لا يخفُت.

خمسون عامًا من الحِكمة والإدارة القائمِة على الرؤية الثاقبة، والتحليلات المعمَّقة؛ لصياغة مُوجِّهات بناء عُمان العصرية الحديثة، تجلَّت فيها أنوارُ حكيم زمانهِ قابوس بن سعيد -طيب لله ثراه- برُؤاه النيرة، وتوجيهاته السديدة، وتقديراته بعيدة النَّظر للأحداث.. أَرْخَت أشرعة سفينة الوطن على مرافئ الرفعة والتقدُّم والنَّماء.

الرؤية - هيثم صلاح

 

البيان التاريخي

"أعدُكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها.. أيها الشعب، سأعمل بأسرع ما يمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سُّعَدَاءِ لمستقبل أفضل".

قابوس بن سعيد - 23 يوليو 1970

 

بيانٌ تاريخيٌّ أرَّخ لمرحلةٍ فاصلةٍ في بناء عُمان الدولة العصرية الحديثة، مُختصرًا رحلةً زمنية بَيْن وعد ووفاء: طموح سبعيني وإنجاز للألفية الرَّاهنة.. رحلة عنوان وجهتها إرساء دعائم دولة المؤسسات والقانون وبناء مواطن قادر، ومتوفرة له مُتطلباته الحياتية، والرعاية الاجتماعية اللازمة، وعمل مخلصٍ دؤوبٍ، وَضَع نُصب العين "عامل السرعة"؛ لصناعةِ أجيالٍ تواكب روح ومتغيرات كل مرحلة، وتتجاوب مع المستجدات، مُستفيدةً من كل جديد في ميادين الحياة، دون إغفال للمرجعية التاريخية والحضارية المميزة لكل عُماني.

 

مسمَّى الوطن وشعاره

"فمن الآن وصاعدا، ستُعرف أرضنا العزيزة باسم "سلطنة عمان".. إنَّ اعتقادنا بأنَّ هذا التغيير بداية لعهد جديد متنور، ورمز لعزمنا أن يكون شعبنا موحدا في مسيرتنا نحو التقدم؛ فلا فرق بعد الآن بين الساحل والداخل وبينهما وبين المقاطعة الجنوبية؛ فالكل شعب واحد مستقبلا ومصيرا، ولقد بدأنا فعلا في دراسة تصاميم لعلم وطني يكون شعاره وألوانه شهودنا على عزمنا على توحيد بلادنا، فلنقف جميعا أمام الله مطيعين مخلصين مجتهدين مساعدين بعضنا بعضا ومساعدين حكومتنا لتحقيق أهدافنا".

قابوس بن سعيد - 9 أغسطس 1970م

كلماتٌ أشرقَ بها فجرٌ جديدٌ لعُمان، استظلَّت به، ورفل في ثوب نعيمها القشيب المواطن والمقيم.. عادتْ الحياة إلى أوصال وطن مزَّقته المحن والإحن، وعاد الأمل يضيئ ربوع الوطن، واستعاد المواطن ثقته في ذاته وحاضره ومستقبله. سنواتٌ من العمل والجهد والعطاء في كل المجالات، ارتفعت فيها على هذه الأرض صُروح دولة عصرية راسخة تستمدُّ قوتها وقدرتها على الانطلاق ليس من عناصر قوة تقليدية، وإنما بعلاقة فريدة وشديدة الخصوصية بين القائد وأبنائه؛ وضع خلالها قابوس بن سعيد رؤية واضحة دقيقة بتحقيق التقدُّم والازدهار في كافة الجوانب لتحقيق الطموحات بسواعد الإنسان العماني الذي تحمَّل ولا يزال مسؤوليات العمل والتنمية بكفاءة ومسؤولية؛ إذ إنه كان ولا يزال الهدف والغاية كما هو الصانع والأداة.

 

 

المواطن.. الغاية والهدف

"ولقد أكدنا دائما في شتى المناسبات أن الإنسان هو هدف التنمية وغايتها، وأنه في ذات الوقت أداتها ووسيلتها، وبقدر ما تكون هذه الأداة فاعلة ماهرة تكون قادرة على تحقيق التنمية".

قابوس بن سعيد - مجلس عُمان 2002

 

لقد ظل المواطني العُماني منذ العام 1970 بمثابة العمود الفقري لمسيرة النهضة الوطنية المباركة، وِفْق ثوابت سياسية أصَّلت لتنمية شمولية أساسها الاستثمارُ الأمثل في المورد البشري، بخطط وبرامج، وسياسات وإستراتيجيات، تتَّكئ على مرتكزات عمل واضحة، تضع هذا المواطن في المقدِّمة، وتعتبره محطةَ تقييم أساسية لما تحقَّق من مُنجز تنموي، عبر منهجية منحته فرصَ التفاعل والتعاطي مع الواقع.

 

 

عفا الله عمَّا سلف

"تتجه أفكارنا الآن إلى إخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس إلى النزوح لخارج الوطن؛ فلأولئك الذين بقوا على ولائهم لوطنهم، ولكنهم اختاروا البقاء في الخارج نقول سنتمكن في وقت قريب من دعوتكم لخدمة وطنكم، أما الذين لم يكونوا موالين لوالدي في الماضي أقول: "عفا الله عما سلف.. عفا الله عما سلف".

قابوس بن سعيد - 9 أغسطس 1970م

إنَّ صون النسيج الوطني هو الضمانة التي آمن بها قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- لتمتين عُرى الوحدة بين أبناء عُمان.. وحدة محفوفة بتحقيق ناجز للعدالة وسيادة القانون، يحفظ للدولة هيبتها، كجوهرٍ لفلسفةِ الحكم الرشيد في إدارة شؤون البلاد.. وحتى تاريخ وداعه -طيب الله ثراه- لم تتغيَّر تلك الفلسفة الرصينة، والإرادة السياسية الواعية لإيجاد نسيج مجتمعي لا يُخترق.

 

العقيدة الأمنية للسلطنة

"ومن أهم واجبات الدولة قديما وحديثا كفالة الأمن وضمان الاستقرار حتى يتفرغ المجتمع بكل فئاته، وفي طمأنينة وهدوء بال، للعمل والإنتاج، والإنشاء والتعمير. أما إذا اضطرب حبل الأمن، واهتزت أركان الاستقرار، فان نتيجة ذلك سوف تكون الفوضى والخراب والدمار للأمة وللفرد على حدٍّ سواء".

قابوس بن سعيد - 18 نوفمبر 1994

وضع قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- أسس وقواعد ومرتكزات العقيدة الأمنية للسلطنة، والمؤكِّدة على أنَّ المواطن نفسه هو جهاز الأمن الحقيقي، ورجل الأمن، والحارس الأمين لأمن وطنه وثرواته ومكتسباته الوطنية؛ كون ظاهرة الإرهاب والتطرف لا يُمكن أن يخترق النسيج الوطني بشكل وبائي ما لم تجد البيئة الوطنية المتاحة لها لفعل ذلك. عقيدة أمنية تسعى لتوطيد العلاقة بين أبناء الوطن، كضمانةٍ وامتدادٍ لتحقيق الأمن والاستقرار، وعلى تعزيز قيم الوحدة ونبذ التعصب والأفكار الهدامة، واعتبار المجتمعات التي تتبنَّى فكرا يتَّصف بالتشدد إنما تحمل في داخلها معاول هدمها.. عقيدة أمنية وطَّدت ولا تزال أركان دولة المؤسسات والقانون، للحفاظ على مصالح الوطن، وتمكين الاستقـرار والنماء والازدهار.

 

 

التسامح ونبذ العنف والتطرف

"إنَّ التطرُّف مهما كانت مسمياته، والتعصُّب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة ترفُضها التربة العمانية الطيبة التي لا تُنبِت إلا طيبا، ولا تقبل أبدا أن تُلقَى فيها بذور الفرقة والشقاق".

قابوس بن سعيد - 18 نوفمبر 1994

فوسط مشهدية ومُناخ معبَّأ بالكراهية والأفكار المسمومة، حفظ قابوس بن سعيد لعُمان تماسكها الاجتماعي وروحها المتسامحة بين مجتمع مُتعدد المذاهب، وأغلق أبوابها أمام من يريد نثر فيروس الطائفية، فظلت بلادنا مُتمسكة بحقِّ أبنائها في الاستقرار والأمان والرفاه الاقتصادي والتماسك الاجتماعي.. وهو وجهٌ آخر لحكمةٍ جنَّبت عُمان وهي تعيش أجواءً يحتدم فيها الصراع، وتتعالى فيها أصوات الكراهية والشعبوية الهدامة، مخاطر التطرف والإرهاب.

جولات سامية.. وبرلمان مفتوح

"أما ثالث هذه التحديات التي نخوضها، وما زلنا، فهو معركة البناء والتنمية والتطوُّر، ولقد كانت خطتنا في هذا المجال طموحة، تستهدف الإنسان العُماني وتعويضه ما فات، وكان عمادها في تنفيذها الإنسان، فالإنسان هو صانع التنمية، ويجب أن يكون هدفها إسعاده، وإعداده، ليعطي بلاده أحسن ما عنده من إنتاج".

قابوس بن سعيد - 18 نوفمبر 1974م

كانت لقاءاته -طيب الله ثراه- في جولاته السامية مع المواطنين، بمثابة تكريس لواقع جديد أُتيحتْ فيه أمام أبناء الوطن فرصَ التخاطب والتحاور المباشر مع القائد، وعرض ما يرونه دون حواجز؛ بتلقائية وعفوية يتلمَّس من خلالها الأب اهتمامات وحاجيات أبنائه، موجِّها أجهزة الدولة نحو تحقيق أولوياتهم، ليظل مَلْمَح الرعاية القابوسية مصدر إلهام أمام مزيد من الكتابات المتعمِّقة، ليس فقط لسبر أغواره واستكناه أبعاده، وإنما لغرسه قيما ومرجعًا أساسيًّا للحكم الرشيد.

 

الشمول النهضوي واستدامة النماء

"ونحن نحتفي بمسيرة نهضتنا المباركة، نتذكر ما تحقق على هذه الأرض الطيبة من منجزات حضارية في مجالات عديدة... وفي ذات الوقت، نؤكد عزمنا على مواصلة العمل، من أجل مزيد من التقدم في مضمار التطور والعمران، والرخاء والازدهار، والأمن والاستقرار بعون الله".

قابوس بن سعيد - مجلس عمان 2005

مظاهر النماء العُماني اليوم تبين مدى تمسُّك قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- بتأسيس نهضةً شموليةً سريعة في ربوع الوطن: وطنية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، لرفع اسم عُمان عاليًا على المستوى الإقليمي والعالمي، مصداقًا لعهدٍ كان قد قطعه على نفسه منذ توليه الحكم: "كان بالأمس ظلام، ولكن بعون الله غداً سيشرق الفجر على عُمان وعلى أهلها"، فكان أن استعادت عُمان دورها ونشاطها كأحد الأطراف المؤثرة في مجريات الأوضاع في الإقليم والمنطقة بل والعالم من حولها، سياسيا واقتصاديا.

 

دولة المؤسسات والقانون

"كما يجب سد كل الثغرات أمام أي طريق يمكن أن يتسرب منها فساد. وإننا نؤكد من هذا المقام على عدم السماح بأي شكل من أشكاله، ونكلف حكومتنا باتخاذ كافة التدابير التي تحول دون حدوثه، وعلى الجهات الرقابية أن تقوم بواجبها في هذا الشأن بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون... فالعدالة لابد أن تأخذ مجراها وأن تكون هي هدفنا ومبتغانا، ونحن بعون الله ماضون في تطوير المؤسسات القضائية والرقابية بما يحقق تطلعاتنا لترسيخ دولة المؤسسات".

قابوس بن سعيد - مجلس عُمان 2011

49 عامًا من عُمر عُمان، تروي ملحمةً وطنيةً نجحتْ خلالها رؤية قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- في تكريس سُلطة الدولة والقانون، وتدعيم الوحدة الوطنية وتعزيز التقدم والنمو الاجتماعي، كأنموذجٍ لدولة عصرية حديثة ومتقدمة؛ ففي مضمار النقلة الحضارية الشاملة التي عاشتها عُمان خلفه أخذت مسيرة البناء والتحديث تتسارع عاماً تلو الآخر، وفق خُططٍ مدروسة ومُحكمة، ورؤية نيرة وإستراتيجيات مستقبلية واعدة، تمكَّنت من أن ترخي سدول الأمن والسلام والاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي.

 

الاتزان والحياد الدبلوماسي الإيجابي

"إن العالم يتضاءل وينكمش، وأنا واثق تماما أن جميع البلدان يجب أن تسير وفق هذه القاعدة، وتحاول أن تفهم بعضها البعض، وتتعاون فيما بينها وتعمل جنبا إلى جنب لخير البشرية جمعاء.. وقد لُوحظت في السنوات الأخيرة بوادر واعدة تدل على أنَّ النزاعات بين الدول صارت تعتبر من الحماقات المطبقة، وأن الخلافات بين البلدان يجب أن تحل بالمفاوضات وليس عن طريق العنف".

قابوس بن سعيد - مجلة "ميد إيست" 1995

 

السياسة الخارجية والأمن الوطني مُترادفان لصيقان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض؛ فعلى المستوى الخارجي رسم قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- سياسة الاتزان العُماني، وفق أسس ومبادئ راسخة تقوم على التعايش السلمي بين جميع الشعوب، وحسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، والاحترام المتبادل لحقوق السيادة الوطنية، ومد الجسور مع الآخرين، وفتح آفاق التعاون والعلاقات الطيبة مع مختلف الدول الشقيقة والصديقة على امتداد العالم، بأسس واضحة ومحددة ومعروفة للجميع؛ منتهجًا دبلوماسية الحياد الإيجابي، لتصبح عُمان الدولة الأكثر أمانًا في العالم، رغم موقعها الجغرافي القريب من فوَّهات اللهب بالمنطقة.

 

نهج الاستشراف والنظرة بعيدة المدى

"إنَّ الدرب طويل، والغاية بعيدة، لكننا واثقون من أن هذا الوطن الغالي يملك من المقومات الحضارية والتاريخية، ومن الآمال والتطلعات المستقبلية، ما يمكنه إن شاء الله من إنجاز سياساته الداخلية والخارجية التي اتضحت معالمها.. وتأكدت ثوابتها والحمد لله".

قابوس بن سعيد - مجلس عُمان 2005

ثوابت الاستشراف في رؤى قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- مثلت أحمد أعمدة الحُكم الرشيد، التي تفسِّر اليوم ما تعيشه عمان من نقلة نوعية، وهي تقترب من إنهاء عقد خامس من نهضتها الشاملة.. كنهجٍ إصلاحيٍّ راعى أولويَّات كل مرحلة، بما تُمليه من قراءات رصينة للمتطلبات والمستجدات محليا وإقليميا ودوليا، وبخارطة طريق جنَّبت البلاد الوقوع في منزلقات ومآلات غير مرغوبة.. نهج آمن بأنَّ الإصلاح حاجة تفرضها التراكمات التاريخية لأي مسيرة بشرية، فصيغت ووضعت لها الوسائل الكفيلة بتحقيقها.

تعليق عبر الفيس بوك