كن فيلًا لا كلبًا

محمد علي العوض

بموت ابن المقفع -قتيلا- كما يقول د. علي بن تميم انتهت مغامرة كاتب من أمراء البيان، وضعته مهنة الكتابة في قلب التحوّلات السياسية، وزجّت به ثقافته الفارسية والعربية في صميم الصراعات الفكرية بوجوهها اللغوية والدينية والسياسية..

وهو صاحب كتاب كليلة "ودمنة" المنقول عن "بيدبا" الهندي، وكتاب "ماقراجسنس" أو الأدب الكبير والأدب الصغير ونقلهما عن الفارسية، بجانب كتاب "خداينامه" -تاريخ ملوك الفرس- وكتاب "آئين نامه" الذي يتناول قوانين الفرس وقيادة الجيوش. وبذا يكون ابن المقفع قد دخل إلى زمرة المترجمين، فقد كانت الفارسية في ذلك الوقت من أكبر اللغات العالمية حينما كانت إمبراطوريتا الفرس والبيزنطيين تتقاسمان العالم.

غير أنّ كتابه "كليلة ودمنة" والذي مرّ عبر بوابات الترجمة من اللغة السنسكريتية ثم إلى البهلوية أو الفارسية الوسطى قبل أن يترجمه ابن المقفع إلى العربية عُدّ من نفائس الأدب العالمي، وأشهر الكتب التي مثلت إضافة حقيقية للمكتبة العربية، بل عُدّ مرجعا هامًا حجز به ابن المقفع مقعدًا له ضمن تصنيف "أمهات الكتب" العربية، فهو لا يقل في عظمته عن الكامل للمُبَرّد أو البيان والتبيين للجاحظ والعمدة لابن رشيق.

ويصفه حكيم المرزوقي بأنّ البشرية لم تلتقِ في تاريخها بين دفتي كتاب مثلما التقت عند "كليلة ودمنة"، فهو كتاب يجمع بين الحكمة والنصيحة من جهة، والتشويق والإدهاش من جهة ثانية. فالجميع اتفق على اعتبار "كليلة ودمنة" من أنفس الكتب وأرقاها عبر العصور، وذلك لأنّه ينطق باسمنا، نحن البشر، في أرقى حالاتنا وأزهاها، كما يخبر عن ضعفنا وجبننا في أسوأ وضعياتنا وأدناها.

اختار ابن المقفع الفانتازيا والعجائبية والخرافة جنسًا ونوعا أدبيًا لنصه، وفق أسلوب الترميز الكفيل بنقل الواقع وتحويله من المستوى الطبيعي إلى مستوى فوق الطبيعي.

فالكتاب عِبارة عن أقاصيص وحكايات مروية على لسان الحيوان؛ شخصيات تلك القصص، ومنها ابنا آوى "كليلة ودمنة" والثوران "شتربة" و"بندبة" والأسد وغيرها، وقد تستّر الكاتب وراءها تلك الشخصيات تفاديا لغضب الحاكم. وقد بيّن في مقدمة الكتاب أنّ الغرض من سرده القصص على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع أهل الهزل من الشبان إلى قراءته، فتُستمال به قلوبهم؛ بجانب إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنساً لقلوب الملوك الذين خاطبهم الكتاب من أجل الإصلاح في المجتمع.

يصور الكتاب كما كتب عبد الجبار نوري؛ أصول الحكم، ويفضح ظلم الحكام وتدهور القيمّ والمنظومة الأخلاقية، ويكشف تآمر الحاشية لأجل مكاسب ذاتية. كما يهدف إلى إسداء النصح الخلقي الاجتماعي والتوجيه السياسي، وتصوير الحكم النموذجي في الدعوة إلى العدل والمشورة والمساواة، ويصور أيضا مظاهر الشر – المتأصل في النفس الآدمية- كالأنانية والمكر والخديعة والجشع والكذب، والصراع الشعوبي والعنصرية بين الأجناس البشرية. ويمكن القول إنّ الثيمات الأساسية في كتاب "كليلة ودمنة" تدور حول العقل والعدل والحكمة والعفة.

وبقدرة مدهشة وبأسلوب سردي سلس يبدأ ابن المقفع القصة ثم يستولد منها قصة أخرى تبدأ بعبارة "زعموا أنّ".. ثم يستولد قصة أخرى متفرعة عنها.. فباب "الأسود والثور" مثلا يبدأ بمشهد الملك "دبشليم" وهو يطلب من "بيدبا" الفيلسوف أن يضرب له مثلاً لمتحابين يمشي بالنميمة بينهما كذوب محتال؛ فتتحول المحبة إلى العداوة. بعدها يعرض إجابة "بيدبا" بأنه: "إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب المحتال؛ لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا" ثم يشرع بعدها الفيلسوف في سياق الأمثلة عبر قصص متعددة يستهلها بحكاية "الرجل الشيخ وأبنائه الثلاثة" ثم يعرج منها إلى قصة ابن الشيخ الذي حاول أن يستفيد من وصية أبيه وصناعة اسمه ومنزلته، ومنها إلى قصة الثور الذي تُرك في الخلاء بأرض موحلة، ثم تتناسل الحكايا لتصل إلى قصة الرجل الذي قتله الحائط المنهد عليه في رحلة هروبه من الذئب، ثمّ قصة القرد الذي دخل ذيله في شق الخشبة، وبعدها قصة وفود "دمنة" على الأسد، ثم قصة الثعلب مع الطبل، وقصة "دمنة" مع الثور وبعدها قصة الغراب الذي احتال الأسد حتى قتله وهكذا دواليك. مع كل حكاية يُحال المتلقي إلى فضاء سردي جديد موازٍ لمسار الحكاية العام؛ مع وجود قرائن رابطة بين كل حكاية وأخرى تقوم بها الحكم والأمثال الواردة على لسان شخصيات القصة لاسيما " كليلة ودمنة". وتعمل هذه القرائن على توجيه مسارات السرد وتعدد الحكايا وتناسلها.

فكل قصة من هذه القصص المتفرعة والمتولدة تسبقها أو تتوسطها جملة من الأمثال والحكم المتحكمة في مسار المشهد القادم من السرد.. فمثلا عندما يسأل كليلة دمنة: كيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أعواناً؟ يجيبه دمنة بحكمة قائلا: لا تنظر إلى صغري وضعفي: فإنّ الأمور ليست بالضعف، ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة؛ فربّ صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغت حيلته ودهاؤه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء. أولم يبلغك أنّ غُراباً ضعيفاً احتال لأسود حتى قتله؟ فيسأل كليلة: وكيف كان ذلك؟ فيجيبه دمنة: زعموا أن غراباً كان... إلى آخر الحكاية التي مؤكد ستنتهي بحكمة تفتر عنها قصة أخرى.

وقد قال ابن المقفع في مقدمته حول هذه الأمثال والحكم: "ينبغي للناظر في كتابنا هذا ألا تكون غايته التصفح لتزاويقه. بل يشرف على ما يتضمن من الأمثال، حتى ينتهي منه؛ ويقف عند كل مثلٍ وكلمةٍ، ويعمل فيها رؤيته".

ومن المثَلْ والقيّم التي أودعها ابن المقفع كتابه: العقل خيرٌ من الجّاه والمال، خيُر الكلام ما قلّ ودلّ، خير السلاطين من أعدل في الناس، شرُ العشقِ ما زادَ وذلّ، الصبرُ عند نزول المصيبة عبادة، أن أسديّتَ جميلاً لأحدٍ فلا تذكّرهٌ وأنْ أسدى لك أحد جميلاً فلا تنساه.

ومنها أيضًا: "إن المنازل متنازعٌة مشتركٌة على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن لا مروءة له يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. إنّ الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديد، والانحطاط منه مهين؛ كالحجر الثقيل: رفعه من الأرض إلى العاتق عسير، ووضعه إلى الأرض هين.

وفي موضع آخر يقول: "قالت العلماء: إنّ أموراً ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليل، وهي: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة.

ويقول أيضا: "لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثة"..

ويورد على لسان دمنة: "إنّ من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون؛ كالكلب الذي يصيب عظماً يابساً فيفرح به. وأما أهل الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسموا به نفوسهم إلى ما هم أهلٌ له، وهو أيضاً لهم أهلٌ؛ كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير، ألا ترى أنّ الكلب يبصبص بذنبه حتى ترمي له الكسرة، وأنّ الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قُدِّم إليه علفه لا يعتلفه حتى يُمسّح ويُتملَّق له. فمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قلّ عمره طويل العمر. ومن كان في عيشه ضيق وقلٌة وإمساك على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه"..

فكن فيلا لا كلبا