التلاحُم الوطني

حاتم الطائي

 

جلالة السلطان أرسى دعائم دولة المؤسسات المعاصرة القادرة على تجاوز التحديات

عُمان التسامح والتعايش تستطيع التأقلم مع المتغيرات والظروف

مصائر الأمم ارتبطت طيلة التاريخ الإنساني بوحدة الشعوب وتوحدها خلف قيادتها

 

تاريخ الأمم والشعوب حافل بالمحطات التاريخية الفارقة، ومليء بالمواقف التي خلدتها كتب التاريخ والسِّيَر، والتي لم تكن وليدة لحظة عفوية، بل تشكلت على مدى عقود وسنوات، تلك المحطات والمواقف هي التي ترسخ قواعد الأوطان، وتعكس عمق التلاحم الوطني وقوته، وتصرف عن كل وطن كيد الكائدين وعدواة المعتدين.

ومصائر الأمم ارتبطت طيلة التاريخ الإنساني بوحدة الشعوب، فما من شعب توحد خلف راية الوطن إلا ونجا من تقلبات الدنيا ونوازلها، وما تضرّرت أمة سوى لتفرق أبنائها وتشتت توجهاتهم. وعندما نتحدث عن أهمية الاصطفاف الوطني في زمن عز فيه استقرار الدول وندرت فيه الوحدة الشعبية، فإننا نسلط الضوء على قضية بالغة الأهمية، بل هي أم القضايا الوطنية، وجوهر التفكير العقلي الرصين. ولطالما كتبنا في هذا المقام عن الدور المحوري الفعّال الذي يسهم به كل مواطن في نهضة بلده، ورفعة وطنه، باعتباره أحد السواعد التي تبني مؤسسات الوطن وتشيّد أركانه، وتقدم الخدمات على تنوعها، والأهم أيضا أنّ المواطن هو الذي يصون المنجزات ويحافظ على المكتسبات.

وبنظرة إلى الحضارات الإنسانية على مر التاريخ، يتبين أنّها لم تقم فقط لأنّ قيادة هذه الحضارة كانت نابغة أو عبقرية وحسب، بل أيضا لأنّ ثمة عناصر توافرت لازدهار هذه الحضارة وتألقها، فحضارة اليونان قامت وانتعشت ولا تزال الإنسانية تنهل من عطاياها، ليس لأنّ ملوك أثينا القدماء تحلوا بمميزات القادة فقط، بل لأنّ من بين مواطني هذه الحضارة خرج أرسطو وأفلاطون وسقراط، وأيضًا من هؤلاء من كان له الفضل في بزوغ نجم أحد أبرز القادة في حضارات ما قبل الميلاد، وهو الإسكندر الأكبر، وغيره كُثُر. ولا يختلف الحال في الحضارة المصرية القديمة، فالملك مينا موحد القطرين، وأحمُس قاهر الهكسوس، وكليوباترا، وآخرون.. وجميع الحضارات القديمة بل والحديثة تبرهن على أنّ وحدة الشعوب واصطفافها خلف القيادة هي الملاذ الآمن والسبيل الأوحد لبناء دولة قوية راسخة الأركان، أصولها ثابتة في أعماق التراب الوطني المقدس، وفروعها يانعة تعانق سماء العزة والإباء. ولا شك أنّ ما تحققه الحضارات دائما من نجاحات يكون سببا في تعاقبها، واستمرارية نجاحاتها، ومن سنن الله الكونية أن تزدهر هذه الحضارات متى ما توافرت لها العوامل الكفيلة بذلك، وهي الأخلاق الرفيعة والوحدة والاجتهاد في العمل وصون المنجزات.

ونحن في عُمان وخلف القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- مصطفون متوحدون تحت الراية العمانية الخفاقة التي يرفعها جلالته- أيّده الله- بقوة وإرادة تعكس مدى حب ورعاية جلالته لوطنه وشعبه، وهو الحب الذي بادله الشعب بحب غامر يتجلى في مظاهر الولاء والعرفان لباني نهضة عُمان الحديثة، ولما لا وهو القائد المفدى الذي منذ أن بصر الدنيا وهو يضع عُمان في سويداء قلبه، ويخطط لها لكي تتبوأ مكانتها في صدارة الأمم وعلى قمة التقدم الإنساني، بإدارة حكيمة راشدة، وبفكر سامٍ يعلو فوق الصغائر، وبتوجيهات سديدة تختصر المسافات وتعجل بالإنجازات. هذه القيادة الحكيمة لمولانا السلطان المعظم- أمد الله في عمره- هي التي منحت عُمان ما تزخر به من نعم وما تحظى به من مكانة رائدة بين الأمم، فما إن تذُكر عُمان حتى تلحق بها أوصاف رائعة الدلالة وبليغة المعنى، فعُمان هي رمز التسامح وأيقونة التعايش ومنارة التفاهم، هي لؤلؤة مضيئة في بحر لُجي، وسفينة ناجية- بإذن الله تعالى- من أمواج متلاطمة من النزاعات والمشاحنات في منطقة لم تعرف الهدوء، باستثناء أرضنا الطيبة المُسالمة..

إنّ عُمان التي خصَّها الرسول الكريم بالذكر، هي عُمان التسامح والتعايش "ما سبوك ولا ضربوك"، عُمان المتآلفة المتمسكة بقيمها وأخلاقها الرفيعة، عُمان القادرة على التأقلم مع المتغيرات والتعاطي مع مختلف التحديات، فكم من تحدٍ عايشه العمانيون متوحدون خلف قائدهم، وكم من عقبة تجاوزها هذا الشعب المناضل بفضل إيمانه الراسخ بأننا أمة وحدة واصطفاف لا فرقة وتشرذم. حافظت عُمان على تماسكها الداخلي طيلة عقود وقرون ماضية، فتأسست الحضارات، وانتشرت الأساطيل العمانية تمخر عباب المحيطات لتصل إلى أبعد النقاط، حاملة رسالة السلام والوئام. وها هي عُمان اليوم بقيادة عبقرية فذة تمضي قدما نحو مزيد من الازدهار والنماء، مستمدة قوتها من شعبها المخلص المعطاء، الذي لا يتوقف عن العمل من أجل نهضتها، وصون ما تحقق من منجز مادي وغير مادي.

ولذلك نقول، إن دولة المؤسسات التي شيّد أركانها حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أيّده الله- تمثل المنجز الحضاري الأهم في عمان الحديثة، فما تزخر به السلطنة من مؤسسات قائمة تعمل ليل نهار من أجل رفعة عمان وتقدمها، تمثل نقطة الارتكاز الأقوى لمواصلة المسيرة النهضوية، واستمرارية البناء، وتدفق العطاء الوطني. فالمؤسسة الوزارية التي تدير مختلف شؤون الوزارات والهيئات والمرافق الحكومية، باتت اليوم على مستوى رفيع من العمل والاتقان، فثمانية وعشرون وزارة تجمع مختلف مجالات العمل الوطني بجانب عدد من الهيئات والمؤسسات المتخصصة، كلها تعمل بجد واجتهاد لكي تتطور المسيرة ويمضي الوطن في مسيرة التقدم والرخاء. ومما لا شك فيه أيضا أنّ هذه المؤسسات التي تمثل القطاع المدني لم تكن لتحقق النجاحات لولا جهود المواطنين، من مسؤولين وموظفين، ليتأكد لنا مدى التلاحم الشديد بين المواطن ومؤسساته، ودوره المحوري- الذي ذكرناه آنفا- في تنمية ورقي هذه المؤسسات. ولا تختلف الحال إذا ما نظرنا إلى المؤسسة الأمنية والعسكرية، بل إنه يمكن القول إن هذه المؤسسة هي رمانة ميزان الوطن، برجالاتها الأشاوس وإداراتها الفاعلة في حفظ الأمن والذود عن حياض الوطن المقدسة، والتضحية بالغالي والنفيس لكي تحيا عُمان وتسطِّر الأمجاد في سجل التاريخ الحافل. أما ثالث هذه المؤسسات فهي مؤسسة الشورى، تلك المؤسسة العمانية الخالصة، التي نهجت التدرج في تطورها وارتكزت على التقاليد العمانية الراسخة رسوخ جبال الحجر، والمتدفقة بالعطاء تدفق أفلاج عمان الجارية.

فمجلس عمان، بشقيه الدولة والشورى، يواصل العمل لوضع التشريعات التي تخدم تطور المسيرة ويعزز عمل الحكومة من خلال النقاشات وإبداء الرأي والمشورة في كل ما يخص شؤون البلاد حسبما يخول له النظام الأساسي للدولة والقوانين ذات الصلة.

آخر المؤسسات التي تمثل ركنا أصيلا في البناء الوطني، هي مؤسسة القضاء، التي تنطلق من قاعدة "اعدلوا بين الناس بالقسط"، وتسعى على الدوام لتطبيق العدالة الناجزة التي تنصف المظلوم وتعاقب الظالم، وترسي أسس العدالة بين الناس.

هكذا هي دولة المؤسسات التي أرسى دعائمها حضرة صاحب الجلالة السلطان المفدى- حفظه الله ورعاه- ويصون منجزاتها المواطن الواعي، المُدرك لما يتهدد بلاده من مخاطر، المُبصر بأخلاقه ومبادئه للتحديات، كل ذلك من أجل أن تكون عُمان دولة شامخة أبد الدهر، تقف صامدة صلبة في وجه الرياح العاتية، عازمة على مواجه الأعاصير مهما اشتدت قوتها، مبحرة نحو مرافئ السلام والاستقرار والرخاء رغم الأمواج المتلاطمة، متحدة بوحدة وتلاحم شعبها الأبي خلف القيادة القوية الأمينة.