أوتار لُغتنا

فاطمة الحارثية

قال أحدهم: "اللغة العربية كالعود، إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تُحرك في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور".

حِكْمَة اللغات مصائر الناس، ولقد ورد إلينا الكثير من الحكايات التي غاص بعض أصحابها في مشكلات وصلت حد الموت بسبب سوء الفهم وانتقاء المفردات التي لم تتناسب مع الموقف، وبلغ الأمر حدَّ تحديد مصائر الشعوب وقيام الحروب عند الإخفاق في التواصل ومعرفة أساليب الحوار والتي أساسها اللغة وكيفية توظيف الكلمات واللحن فيها.

سُنن قامت وحضارات تم تشييدها على كلمة من بضع حروف. إنَّها كيمياء البقاء ومحرك العلاقات الإنسانية وأيضا القادر على هدمها وزوالها. ولقد برهن التاريخ الذي رفع مَنْ رفع، وهَدَم من هدم بالكلمة واللغة. وأستطيع القول إنَّ تباين العمران واختلاف الأمم لم يكن إلا بفعل تفعيل أهلها للغات التي رسمت فَهْم كيفية بلوغ الفكر وبلورة الحلم إلى حقيقة.

التعاملات اليومية المرتبطة بين البيئات المختلفة -سواء الاجتماعية أو العملية أو حتى على مستوى الخطاب الإنساني بين دول العالم- تحكمها سلاسة لغاتهم وفهم شعوبها لوسيلة التواصل الأساسية فيها وهي اللغة، وأي سوء فهم في ذلك المنظور قد يودي بحياة وبقاء تلك العلاقات. وهذا يقودنا إلى دور العامية  في إرهاق تلك العلاقات وتهديد وجود السلام والقيم والمبادئ على خارطة الحياة عند تحريف اللغة واللغو في معانيها.

استثقلَ الكثير من الناس اللغة العربية في مأخذ لعلم النحو وما فيه من علوم لم يقدمها المعلم كما يجب، ولم يوفِّ حقها ربما للاجتهادات المتعددة لعلماء اللغة التي أتت على بعض الخلاف، فاختلف الناس في ذلك مما أتى بالنحو على جوهر المعنى، وكأن جهود علماء النحو قلب القصد على أصحابه، وأثر على حق اللغة العربية ووجودها.

وأيضا جهل استخدام البعض للمحسنات البديعية من سجع وطباق؛ مما قذ على السامع ذلك، فنَفَر منها واتهمها باللحن والرخامَة، بل وتجرأ البعض على نعتها باللغة الباردة أي أنها لا تصلح في محافل المرح والاحتفالات، ليستبدلها البعض بالعامية على أساس أنَّ الناس تستحسن ذلك أكثر، والآخر تشدق بين جملها بمفردات لغات أخرى (ليستسيغ المتلقِّي مدَّعِي الثقافة ذلك). إذن أيها الانسان العربي، إلى متى ستبقى في صراع مع الجزالة والجودة، وإلى متى ستعمل على الإتيان بالغريب الوحشي، متعذِّرا براحة المتلقي والتطوير والتغيير ومواكبة متغيرات العصر؟

أمثلة كثيرة تمر علينا كل يوم وهي تبعدنا عن لغتنا، لنفقد معنى الاتصال وفهم بعضنا البعض.. لتُفقِد القرآن الكريم المقبلين عليه وسهولة فهم معانيه والحياة بين قيمه وتشريعاته السمحة. وفي حقيقة الأمر، إن جاز لي القول إن "التكاسل" والإقبال على السهل الممتع هو تحدٍّ حقيقي لوجودنا وأداء دورنا على هذه الأرض.

--------------------

رسالة:

مع زيادة أعداد متداولي اللكنات المختلفة -سواء العامية، أو اللهجات المختلفة و"العربإنجليزي"- غابت عنَّا معاني كلمات اللغة العربية، وعمق التعبير وسهولة إيصال المعنى، وتعزيز العلاقات الإنسانية، بل ووصل الحال إلى درجات من الظلم وسوء الظن بسبب إهمالنا للغتنا وأهمية بناء العلاقات بالأسس الصحيحة والحوارات المفيدة، والمعاني المشتركة الحقيقية لكل مفردة وكلمة في صياغة حواراتنا اليومية.

منذ قُرون، بل ومنذ بدء الخليقة، والكلمة مفتاح البقاء والسلام، وعلينا نحن الثقلين المكلفين ببناء الإنسان والحياة على الأرض استخدام كافة السبل وبذل كل الجهد لإبقاء لغتنا سليمة بعيدة عن التغريب والتهجير لتبقى العلاقات بين بعضنا البعض وطيدة وحقيقية وعميقة.