ليتني كنت هناك!

د. شريفة بنت علي القاسمية

خبير بحوث ودراسات

عذرا قرائي ... سأخرج عن النص ... وعفوا لن أعتذر؛ لن أنسلخ إلا بإرادتي ولن أجاهر علناً إلا بذلك. ولا أخفيكم سرا! إنه وبرغم ذلك الثناء الثلجي المُفاجئ لما رسمه قلمي المتواضع من صورة ذهنية ملأى بذلك الارتواء.

إلا أنني! ما زلت أشعر بذلك الاستحياء الذي يستوقفني عن الالتفات لما كتبته؛ فلم أستطع العودة لقراءة واستحضار قفزاتي العقلية المتأرجحة يمنة ويسرى وكأن نواياي – اختصارا- رافقت بحور الشعر إلى ذلك الشعاع المؤدي لليوبيل الذهبي. وحال لساني يقول: هل استطعت فعلاً أن أقفز بتلك السنوات الضوئية وأعبر بتلك الكلمات إلى جبل شمس؟ هل استقرت مكانها بـ"النرويج الاستوائي"؟ هل وصلت حروف قصائدي لساحلي المعتق بلون القمر؟ هل ارتقى بي ذلك الشموخ إلى تلك الصفرة من كثباننا الوهيبية؟ أم أنَّ الألوان قد امتزجت برائحة الورد ووهج النور لتعود بي إلى تلك السنوات وذاكرة أجساد صغيرة تغذت من نفحات ذلك الشارع المُعبد ذي الميل وربع؛ كأنه صفيحة تكتونية رسمت خارطة دولة استقرت سلاما في لب الكرة الأرضية ووشاحها، من مطرح "المرسى" إلى صحار الأيقونة "النحاسية".

 

كانت تلك الأعين الصغيرة سناً والكبيرة بالأمل نظامية الاستعداد وفي حالة من البحث البصري لذلك العبور الخاطف الذي يسابق هطوله المطري رعد البرق، ويسابق زمناً غير مقاس بمنظور الشعوب الأخرى وكأنه زمنٌ خلق لبني عمان فقط. وفي نفس الموعد على رمال ساحليتي الجميلة تتشكل تلك الظاهرة البصرية مجددا ويتكرر المشهد بذات الكتلة التسع أربعينية ومن خلف ذلك الزجاج الفولاذي كوميض فسفوري يخطف القلوب قبل الأبصار. ولكنني لم أعد هناك وليس الزمان كالزمان لقد مضت تلك التسعة والأربعون ربيعًا وما زالت عيناي ترتقب ذلك النور الذي أذعن عقلي في استيعابه وما فتئ عني إلى يومنا هذا.

 

ارتسم ذلك النور بين أضلعنا كلوحة كلود مونيه الشهيرة "انطباع شروق الشمس" وارتسمت لنا تلك الهيبة العظيمة ليمر بنا الزمن بما يحمله من حنين ورؤيا في أن يلتقي وهج عيناها بذلك النور. وأدركت وقتها أن ذلك النور تقاسمه جميع العمانيين ليكون الوهج الذي يصنع مجدهم لغرس فسائل حاضرهم ومستقبلهم كتنمية مستدامة لعصور أرض مجان والنحاس.

 

لم أفق من تلك الصدمة إلا وصغيرتي تستفهمني بعباراتها البريئة: ماما هل حقاً أنتِ من كتب ذلك المقال أم أنَّ هناك يدا مستعارة أخذت شراع مفرداتك وسافرت بها على أوراق مجففة؟ وما أن أفقت إلا وقد تغيرت نواياي لأغير معها ذلك المسار الوحدوي، ولأقف وأقول: إن هناك الكثير من رفقاء الدرب وأصحاب الطريق؛ ممن زرع وغرس ولم يكترث لإبراز تلك النقود المعدنية المخبأة سرا في جيوب العزيمة والإصرار للنهوض بعُمان حتى وإن كان ما زال في الصف الأخير؛ فهذا الموقع منحه أحقية التحديق باللوحة الانطباعية بكل أريحية. فنحن قابوسيو العهد وسبيعينيو المنشأ، نحن من ترعرع بتلك المدرسة التي يتمنى أن ينتمي إليها كل من لم يلتحق بشرفاتها، بكل من لم يحمل حقائب الأمل؛ لقد عشنا الحب القابوسي الذي منحنا شرف الوقوف أمام صرح صورته المهيبة وكلنا إكبارٌ وغرور لنقول: نعم نحن خريجو هذه المدرسة القابوسية.

 

تعلمنا معاً كيف نصنع الحياة كعمانيي المنشأ والهوية، وأن نحفر الطرق، وأن نعمر المساجد، وأن نزرع المليون نخلة، وأن نُحافظ على شواطئنا، وأن نجدد أعلامنا وسلامنا مع كل قُطر. لقد عشنا في هذا البستان معاً وشهدنا غراسه وهو يُثمر، وتقاسمنا أزاهيره وزروعه، فكيف لي ألا أكتب؟ إنني يا ابنتي "في حضرة السلطان".