فضلا.. أعيدوا الألف والهمزة!

 

عائشة بنت أحمد سويدان البلوشية

 

دأبت العرب على وصف المكانة التي يحتلها كل من سكن أعمق وأجمل مكان في الخافق بقولهم "في سويداء القلب مسكنهم"، وكم نسج الشعراء قصائدهم مستخدمين ذات الوصف، لبلاغته وجماله، فكما قال شاعر المعرة، أبو العلاء:

"أَصمَت سُوَيداءَ قَلبٍ مِن تَلَهُّبِها.:. حَمراءُ وَالنارُ تَنضو حُلَّةَ الفَحَمِ.

كَأَنَّما اللَيثُ أَلقى لَونَ مُقلَتِهِ.:. لَيلاً عَلَيها فَقَد مَلَّت مِنَ السَحَمِ.

وَالتُربُ نَقليهِ ظُلماً وَهوَ والِدُنا.:. وَكَم لَنا فيهِ مِن قُربى وَمِن رَحِمِ".

فالسويداء لدى العرب هي العمق والمهجة والحبة، وسويداء القلب هي عمقه ومهجته وحبته، لذا جادت قرائح الشعراء بأبيات حوت هذا التشبيه، فأنت إذا أحببت شخصا، وارتفعت مكانته في قلبك، وجاءك يوما زائرا، فبالطبع لن تسكنه أي دار وحسب، بل ستتخير له أرقاها وأجملها وأحسنها، فما بالك بموضع الحبيب من الخافق، بالطبع سويداء القلب هي مستقره ومستودعه، لأنها أشد المناطق حساسية في القلب، ويقال إنّ هذه المنطقة تظل خالية حتى يستوطنها ذلك الذي يستحقها.

ربما تأثرت منذ طفولتي وأنا أنتقل ما بين بلدتي الحبيبة في ولاية عبري الواعدة بالرخاء إلى محافظة مسقط العامرة بالحب، أن أقرأ أسماء القرى والمدن التي تكون على طريق الذهاب والعودة، ومرت الأيام والسنون وأنا أشاهد بعض تلك الأسماء تختفي لتحل محلها أسماء جديدة جميلة، وعندما كنت أسأل كيف تغير اسم هذه القرية أو تلك من الاسم القديم إلى هذا الاسم، كنت أستغرب بشدة عندما تأتيني المعلومة بأنّ المقام السامي -حفظه الله ورعاه- وبرداء الصحة كساه، وبدثار العافية سربله وغطاه، قد أمر بتغيير الاسم، وكنت ابتسم لتلك الملاحظة السامية الثاقبة، التي لا تترك شاردة ولا واردة على هذه الأرض الطيبة، إلا ونظر إليها بعين الجمال والحب، وكم من بلدة ارتبط اسمها بمثل من الأمثال أخذ في التداول على سبيل التفكه والتندر، ولكنه السلطان الذي لا يرتضي لبلاده إلا العزة والكرامة،  فأمر بتبديل الاسم إلى ما هو أسمى وأرقى، لإيمانه رعاه الله أن لكل من اسمه نصيب، ولنا في كثير من تلك المسميات الأمثلة العديدة، التي لا يتسع المجال لذكرها الآن.

 

"سويداء الماء" هي إحدى قرى ولاية عبري بمحافظة الظاهرة، وكم كنا نسعد في طفولتنا عندما نذهب إليها لأننا سنزور إحدى الطوى (جمع طوي)، أو المزارع لجلب الرطب أو البر (القمح) أو القت (البرسيم) أو أي نوع من المحاصيل الزراعية، وأتذكر جيدا أنني سألت جدي سويدان بن محمد -رحمه الله - عن معنى سويداء الماء، فقال لي بأن اسمها جاء بسبب عمق مائها وغزارته وحلاوته، وأن المحل(الجفاف) قد يصيب ما جاورها من قرى ومزارعها، إلا سويداء الماء، فسبحان من جعل لها من اسمها نصيب.

واليوم وبعد مرور هذه العمر من الذهاب والعودة، استغربت بل استهجنت تغيير اسمها إلى "سويد الماء"، فثماني لوحات زرقاء كتب عليها هذا الاسم الذي خطه من خطه دون أن يعي معناه، تمر عليها وأنت في طريقك إلى مركز الولاية قادما من مسقط، يجعل مؤشر ضغط الدم يرتفع لديك، لأنّ الذي عشق الأرض وتعلق باسمها لما له من دلالات  عميقة، لن يقبل باسم لا معنى له، بل على العكس تماما، فكل عماني يعي جيدا الدلالة غير الجيدة للاسم الجديد، وفي اللهجة العامية، حتى أنها تكاد تكون سبة لشخص قام بعمل مخجل، وقد سألت جميع الأهل والمعارف إن كانوا قد أدلوا بملاحظاتهم حول الاسم الجديد، الذي لا يتوافق والذوق العام، فتفاجأت برد الجميع بأنهم قاموا برفع الأمر إلى سعادة الشيخ محافظ الظاهرة، وعني شخصيا تحدثت مع أحد أعضاء المجلس البلدي، وضربت لهم المثل أنّ مولانا حفظه الله ورعاه قد زار محافظة الظاهرة، وذرعها شبرا شبرا،  ولو كان هذا الاسم "سويداء الماء" به خلة أو علة، لكان جلالته حفظه الله ورعاه هو أول من أمر بتغييره.

أكتب لكل من يعنيه الأمر اليوم لإعادة الألف والهمزة إلى جميع اللوحات الإرشادية، ليعود لها اسمها ورونقها الجمالي الراقي، فلكل شيء من اسمه نصيب، ولنأمل بأنّ ماء هذه الأرض يظل بحلاوته وغزارته التي يرمز لها اسمه.

 

 

------------------------------------------------------------

توقيع:

"يا مرحبا بنجمٍ طويلٍ عالي.:.

ما ينرقى صعبٍ بعيد منالي،

إنته ذرانا الأولي والتالي.:.

لي سيفكم فوق المعالي جالي."

حمد بن علي الغافري

فن التغرود، مهرجان العيد الوطني 1999م، ولاية عبري