رأسمالية الكوارث (1 – 3)

 

عبيدلي العبيدلي

"رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية" هو العدد الجديد رقم 478 من سلسلة عالم المعرفة لشهر نوفمبر من العام 2019 من تأليف مؤلف أنتوني لوينشتاين، وترجمة أحمد عبد الحميد. يقع الكتاب في حوالي 437.

وكما جاء في صفحة غلاف الكتاب الأخيرة فهو نتاج طبيعي ومنطقي "لبيئة ما بعد هجمات 11 سبتمبر في نيويورك يكشف الوجه القبيح للنظام الرأسمالي الغربي، ويسقط القناع الذي يتخفى وراءه هذا النظام لكي يستمر في ممارسته لاستغلال الشعوب الضعيفة في العالم، والاستفادة من المآسي الإنسانية للاجئين والكوارث الطبيعية والحروب والصراعات من أجل التربح ومواصلة النهب الممنهج لخيرات هذه الشعوب ومواردها، واستنزاف ثرواتها الطبيعية لمصلحة الحكومات الغربية والشركات المتعددة الجنسيات". وكما يفصح ما جاء في الكتاب فقد "خلقت السياسات الرأسمالية للدول الكبرى مآسٍ وكوارث لشعوب كثير من الدول تحت اسم "تحقيق التنمية وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والأعمال الإغاثية"، إذ إن النتائج دائما ما كانت سلبية وبعيدة عن المخطط له، فضلا عن أنّها حاولت إطالة أمد هذه الكوارث ليصبح الأمر أشبه ما يكون بتجارة كبرى تدر المليارات على الشركات والمقاولين".

وليس هذا هو الكتاب الوحيد الذي يتحدث عمّا أصبح يعرف برأسمالية الكوارث، أو رأسمالية الصدمات، فهناك كتاب اليسارية الكندية نعومي كلاين الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، تحت عنوان "عقيدة الصدمة (صعود رأسمالية الكوارث)"، والذي تناولت فيه، بكثير من التفصيل أيضا هذا المنحى الذي باتت تنحو في اتجاهه الرأسمالية في أطوارها المتأخرة التي نعيشها اليوم.

قراءة الكتابين، بتمعن، يمكن أن تزود قارئهما بذخيرة غنية تعينه على فهم ما يجري في البلاد العربية منذ ما يزيد على نصف قرن.  وتتحول "الكوارث"، أو "الصدمات"، التي أسهب في توصيفها الكاتبان، كل بطريقته الخاصة إلى مشروعات متكاملة جرى تصميم مجراها بعناية فائقة في دوائر صنع القرار في العواصم الرأسمالية من أمثال موسكو وواشنطن، بل وحتى لندن وباريس.

ومن ثمّ فما سارت فيه لبنان منذ العام 1975، وحتى يومنا هذا، إنما هو، دون الغرق في التفاصيل، والتركيز على المحصلة العامة للحوادث التي عرفها ذلك البلد، والمحطات الرئيسة في مسيرة الأزمة اللبنانية، تكشف بوضوح أنّ ما جرى لم يكن محض صدفة، ولم يكن أيضا نتيجة أوضاع محلية فقط. بل كان العامل الأكثر تأثيرا في اندلاعها كأزمة، وتطورها ككارثة، إنّما يعود في صلبه إلى تطبيق مشروعات الرأسمالية في ثوبها الجديد المستفيد، أو المولد، للكوارث في البلدان التي تنخرط في مكونات خارطة مشروعاتها الدولية.

ولا يخرج المسار الذي تحركت فيه الأزمة العراقية، منذ الإطاحة بنظام صدام، في العام 2003، حتى يومنا هذا عن هذا الإطار الذي نتحدث عنه، دون الحاجة إلى التيه في تعرجات الطريق الذي سلكته. فما هو الأهم، من كل ذلك؟ هو المآل الذي انتهت إليه، وهو ما يكشفه كتابا " لوينشتاين "، و "كلاين".

ومحاولة الوصول إلى فهم عميق لما جاء في الكتابين، وتحديدا كتاب لوينشتاين، يتطلب العودة إلى تاريخ صعود الرأسمالية قبل بلوغها مرحلة التعفن الذي تحدث عنه كارل ماركس.

ودون الحاجة إلى الغرق في تفاصيل جوهر الرأسمالية، يمكن القول إنها تنطلق من مجموعة من المسلمات المبررة، من وجهة نظرها، إذ ترتكز أساسا على أن من حق الإنسان  أن "يبحث دائما عن تعظيم منافعه الشخصية ضمن القيود المفروضة عليه من الدخل المحدود، ومن أجل ذلك فهو يفكر دائما بتحقيق أكبر المنافع بأقل التكاليف وبطريقة مادية محسوسة، ويهمل كل العوامل التي ستحول دون تحقيق هذا الهدف، فكل القيم والعادات والأخلاق ليس لها مكان في حساباته إلا إذا كانت ستقود إلى تعظيم منافعه ... (على أن يجري كل ذلك في نطاق)  البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب (الذي يصبح حينها أمرا مشروعا ومطلوبا، والمستثمر يعرف كيف يحقق الأرباح من خلال توجهه نحو النشاط الاقتصادي المناسب الذي يحقق أكبر مردودية له، ولا حرج".

يعزز ما تذهب له الرأسمالية ما جاء على لسان "رائد النظرية الرأسمالية الأسكتلندي آدم سميث في القرن الثامن عشر (الذي شدد على) إنّ الانسان عندما يبحث عن مصلحته الشخصية فإنّه سيخدم المجتمع أكثر مما لو أراد ذلك مباشرة".

ولعل في كتاب فلاديمير لينين "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" الذي كتبه عشية الثورة البلشفية الكثير من المؤشرات التي كانت توحي، دون القدرة على التوصيف الدقيق، لأن المرحلة كانت حينها مبكرة، بما سوف تؤل له الرأسمالية في مراحلها المتأخرة، وهو ما وصلنا له اليوم، عندما تكتسب الرسمالية صفاتها الجديدة التي تركز على خمس مبادئ رئيسة هي، كما يلخصها موقع "الاشتراكي" على الويب.

"1- تركيز الإنتاج ورأس المال ليصل إلى هذه المرحلة العالية أدى إلى خلق احتكارات، والتي تلعب دوراً حاسماً في الحياة الاقتصادية.

2- اندماج رأس المال البنكي ورأس المال الصناعي، وتكوين أرستقراطية مالية على أساس رأس المال التمويلي.

3- تصدير رأسمال، الذي أصبح في غاية الأهمية، والذي يتميز عن تصدير السلع.

4- تشكيل الاحتكارات الرأسمالية الدولية، والتي تقتسم العالم فيما بينها.

5- الانتهاء من التقسيم الإقليمي للعالم أجمع بين القوى الرأسمالية الكبرى."

ولو تمعنا في مكونات تلك البنود الخمسة، فسوف نكتشف أنّها تحمل في أحشائها ما وصلت إليه الرأسمالية اليوم عندما ترتكز استراتيجياتها على الاستفادة من الأزمات والكوارث، إن لم تكن هي المولد الحقيقي لها.

وإذا كنا نؤمن بأنّ جذور الرأسمالية تنغرس عميقا في إشعالها لنيران الحروب التي تخدم مصالحها، وتحقق لها ما تريده من سيطرة، وتوسيع مناطق النفوذ، وزيادة مصادر النهب، فمن الطبيعي أن تعيد الحروب التي نشهدها اليوم تشتعل في البلدان العربية، ولا تكاد أن تنطفئ واحدة حتى تحل أخرى مكانها. هي من صنع تلك الدوائر الرأسمالية، ولا أحد آخر سواها.