مجلس التعاون.. إلى أين؟

 

د. بدر الشيدي

تنعقد قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولا تزال كثير من الغيوم القاتمة تخيم على سماء الخليج، غيوم مستقرة منذ زمن طويل لا تريد أن تبرح السماء ولا تريد أن تسقط مطرها لتعم الفائدة والسلام بين أبناء دول الخليج.

هذه البقعة من الأرض التي ستسمى في وقت ما بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. عندما عكف القادة المجتمعون في أبوظبي في مايو 1981م لوضع اللمسات الأخيرة على منظومة خليجية تجمعهم وتقيهم من التهديدات التي تحيق بكياناتها وتهدد وجودهم. كانوا يدركون بأنّ هذه المنطقة مصيرها واحد وشعبها واحد، أسس كثيرة تجمع أبناء هذه المنطقة، لذلك أسسوا كيانا وكانوا يضعون الأسس الكفيلة التي ستحقق هذا الهدف التي من خلالها سيتمكن المجلس من الصمود في مواجهة التيارات التي ستقابله في مسيرته. مجلس قوي البنية لا تعصف به العواصف ولا تطيح به الرياح. مجلس أساسه متين وقوامه من الضخامة سوف يمكنه من العيش عبر الأزمنة. كيان هلامي زئبقي يتموضع مع التغيرات وينحني للعواصف ولا ينكسر.

لكن لو عاد الزمان، وقيض للقادة المؤسسين وجلسوا مرة أخرى على نفس تلك الطاولة. وتساءل هؤلاء وهم يرون منظومتهم تتجاذبها الأهواء والمطامع وتنخرها الأمزجة المتقلبة والمتعثرة.

لكن لم يكن أبدا يدور بخلد القادة المؤسسين لذلك الكيان بأن يوما ما سيأتي ويعصف بتلك المنظومة التي ابتدعوها معا. هل تخيلوا ما ستؤول إليه تلك المنظومة التي عكفوا على صياغتها، هل سيدركون أنّ المجلس تتآكل أعمدته من الداخل ولم يبق منه غير الغلاف قائم فقط؟

أسئلة كثيرة باتت تطرح من قبيل، هل كانت المشكلة في أسس وضعت غير قابلة للتطوير، لا تقوم على أسس حداثوية متينة لا تتغير مع تغير الأشخاص، أنظمة مطواعة أيضاً لتغيرات الزمن وتقلبات الظروف. ماذا لو كانت هناك منظومة قانونية تستند لها كل منظومات الحكم في هذه الدول. ماذا كان ينقص لو أنهم فكروا في ذلك. المال موجود والثروة وافرة والشعوب طيعة لهم. لو أنهم صاغوا أنظمة تقوم على الشورى الحقيقية وليست تلك المزيفة، مجالس شورى وبرلمانات ليس لها من الاسم إلا حروفه، تلك الحروف التي ضاع أغلبها في مهب الريح. ماذا لو وضعوا آليات ناجعة لمحاربة الفساد والمفسدين. أنظمة قائمة على الشفافية والمكاشفة، ليس على الاستحواذ والهيمنة.

هل أضاع القادة التاريخيون فرصة حقيقية لبناء منظومة عربية تكون فعلا مثالا للوحدة والتعاون والتراحم بين أبناء الخليج. خصوصًا وأنّ التجربة الماثلة أمامهم هي منظومة جامعة الدول العربية، تلك المنظومة التي لم تتطور وتراجعت كثيرا عمّا عليه سابقًا وليتها بقيت عند المستوى الذي أنشئت فيه.

مجلس التعاون الذي ولد من رحم التهديدات التي شكلتها ظروف الحرب العراقية الإيرانية في تلك الفترة. هل ولد ميتا إذن؟ في الحقيقة هو لم يولد ميتا، ولكنّه ولد وبه بعض العاهات، مما كان سببا في إعاقته فيما بعد وأصبح مشلولا، حركته بطيئة جداً، قد تبدو بعض الأحيان أنّ تلك الحركة تسير للخلف.

لكن لو أمعنا النظر جيدا وأزحنا تلك الغشاوة، كيف سنرى المجلس إذن؟

تراجع المجلس عن أشياء كثيرة؛ منها على سبيل المثال التنقل الحر بين أبناء دول المجلس، أغلقت الحدود بين بعض أعضائه، سوق خليجية واتحاد جمركي متعثران، مواقف سياسية متناقضة، والكارثة الأقوى فقدان الثقة بين دول المجلس. ترسخت التفرقة والتباعد والعداوة بين أبناء المجلس، صناعة تنافسية غير تكاملية، دول تريد السيطرة، المصالح الشخصية تطغى على المصلحة العامة.

لم تستطع الدول أن تخلق لها سياسة خارجية موحدة، حتى على الخطوط العريضة دون الدخول في التفاصيل. مفاهيم كثيرة تداخلت، سقطت الكثير من المفاهيم المقدسة، وكأن ليس شيئا مقدس في أيديولوجية المجلس. لا أمن لا دفاع ولا مواطن. لا صديق مشترك، والعدو مفهومه باهت وضبابي بين دول المجلس.

إعلام سيئ يعمق الخلافات ويبتدع العداوات. الأمن والدفاع المشترك تجاذبته أطراف خارجية. استثمارات تذهب بعيدا لا تسقط في تربة المجلس، الوحدة الاقتصادية والاتحاد الجمركي -رغم بعض النجاحات - السوق الخليجية والعملة الموحد متعثرة.. ذهبت كلها أدراج الرياح.

دور المجلس هُمِّش ولم يكن له في الأساس أي دور وأصبح دوره أغلب ما يكون سكرتارية تعد للاجتماعات. لا شفافية في الطرح، ليس إلا المجاملات والتزلّف. والأمين العام ليس إلا موظف إداري لإنهاء المراسلات اليومية، بيانات باهته مكررة، عبارات غير متسقة ومنعزلة ولا ترتبط ببعضها البعض. تصاغ على عجل دون النظر إلى المشاكل الحقيقية.

يكفي ضحك ونحن واعون تماما أن المشكلة أكبر وأعمق. الشرخ الكبير لا يزال يتسع وخصوصا عندما يصل إلى أفراد المجتمع وفئاته.

لا أريد أن أرسم صورة سوداء، لكن أبدًا لم تكن تلك الصورة ناصعة البياض. السؤال إلى متى سيظل المجلس يدور في حلقة مفرغة؟

ما يعانيه المجلس، هي مشكلة بنيوية تأسيسية. لطالما يحتاج إلى إعادة بناء على أسس حقيقية ومنظومة فكرية متطورة تعيد صياغة المجلس بشكل حداثي متحرر من الماضي ورواسبه. مقاربة للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها دول المجلس. يتطلب تطوير آليات العمل المشرك، تقوم على الشفافية وحسن النوايا. إصلاح اقتصادي وسياسي قائم على المواطنة الخليجية الموحدة.

ولعل الأزمة القطرية كشفت حجم التهديد الذي يواجهه المجلس. ولكن نتمنى أن يُستفاد من تلك الأزمة وتقوي المجلس وبنيته الحقيقية.