الصورة النَّمطيّة للمرأة في المجتمعات الذُّكورِيّة

 

خلود محمود الخضورية | مسقط

 

اعتدنا دائماً ومنذ الأزل على تأطير أدوار المرأة وحصرها وجعلها بديهية في المجتمع وكأنها ثوابت لا تقبل النقاش ومصير حتمي لجميع السيدات، هنا طرحت سيمون دو بوفوار مقولتها الأزليّة والتاريخية والتي لو لم تطرح غيرها لكفتاها عن كل إنجازاتها الثقافية والأدبية وباعها الطويل في الكتابة، حيث قالت: "لا تولد المرأة امرأة، بل أنها تصبح كذلك"؛ كاشفةً عن جانبٍ خفي نكاد لا نلقي له بالاً لفرط ما اعتدنا عليه - نحن النساء- .

أي أنه لا يوجد هناك أنموذج مُحدد سلفًا أو قالب اجتماعيّ منمّط يجب أن تتّبعه جميع النساء لإثبات أنوثتهن، وأن الأنماط المُستحدثة جميعها عن شخصيات ومصائر النساء هي في الأغلب مُصطنعة ولا تعبرعن كينونة الأنثى الحقيقية، وذلك دون التطرّق لبيولوجية المرأة التي تحتّم عليها المرور ببعض التجارب الشبيهة حتمًا.

كما تطرح الكاتبة النسوية أليف شافاق مزيدًا من الأسئلة في هذا الشأن وتسأل "ما هي بالضبط المرأة السوية؟ ما الصفات النسائية التي تعتبر طبيعية؟ وماهي الصفات الأخرى التي تصنف على أنها ثقافية؟ هل مقدّر على الفتيات "جِينياً" أن يكنّ أمهات وعاطفيات ومربيات؟ أم إن عوائلهن ومجتمعاتهن من يشكلنهن على هذا النحو؟ أم أنه أمر آخر، تكون فيه الصفات الطبيعية والثقافية متضافرة بشدة على الحد الذي يصعب معه البتّ في أي تقسيم لتلك الصفات المشكّلة للمرأة؟".

وبمزيد من التعمّق في هذه الفكرة، تتّضح أن "الأنوثة" التي كبرنا وصُيّرنا إليها هي مجرد خليط من التصرفات والسمات والأفعال والأمنيات التي تبرمجنا عليها منذ الطفولة من قبل المجتمع وصبحناها بفعل النشأة والعائلة وإلخ. وهنا الفيصل بين أن نُولد بصفة طبيعية دون اية تدخلات خارجية تؤثر على نشأتنا فتصيّرنا للنسوة اللاتي نحن عليهن الآن والعكس.

على سبيل المثال المُضحك جداً والبسيط جداً، رُبينا منذ طفولتنا أن اللون الوردي للبنات وأن الأزرق للأولاد، - لا ندري من أين جاءت ثنائية الألوان لِكِلا الجنسين- ، حُددّ لنا أيضاً المديح والوصف الرنّان الذي ينبغي أن نحصل شرف نيله (حلوة، رقيقة، هادية، تسمع الكلام، لا تلعب مع الأولاد، لا ترفع صوتها، لا تتشاجر..) والكثير من الأوصاف التي صيّرتنا الكائنات السلحفاتية البطيئة التي أصبحناها دون وعي وفق أطر الأنوثة الخجولة، حتى العطور تم تقسيمها لثنائية الجنس، فهناك روائح رجالية خاصة ونسائية خاصة، لا ندري سبب وتاريخ بدئها.

للجنس الآخر نصيبٌ من هذه البرمجة بالطبع، وهي أغلبها تدور حول النصح والأمر بالتحلي ببعض الصفات الرجولية مثل الشجاعة -حتى وإن ما زالوا اطفالاً-، وأن البكاء ليس من شيم الرجال وإنما لـ "الحريم"، فتُكبت عواطفهم الإنسانية، ويحمّلون عبئ تجسيد مظاهر الرجولة في عمر مبكر قبل أوانه، يحدد للأولاد الألوان التي يلبسون والألعاب التي يلعبون تتم عملية التنميط بشكلٍ كامل ومُمنهج دون وعي حتى يصبح الرجل بالمواصفات والمقاييس التي هي عليها اليوم.

يُتوقع من المرأة لاحقاً أن يُحصر مستقبلها في الزواج. أما الدراسة – لدى بعض العائلات - ليست بالأمر الجلل كما الوظيفة، فطالما كان تحقيق الإنجازات المهنية شأناً ذكورياً خاصاً، وقلما كان هاجساً كبيراً من حياة النساء، وإنما أمراً ثانوياً وهذا بالطبع في حال سمحت لها ظروفها الاجتماعية والبيولوجية.

يُتوقع من المرأة أن تكون عاطفية وحساسة, لا تُحسن إدارة مشاعرها والسيطرة عليها. وأن كل امرأة هي "أم" بالفطرة وراعية ممتازة، تجيد الطبخ وتجيد الغسيل والشطف والكنس والكي من تلقاء ولادتها، نوع جنسها الذي يُحتّم عليها معرفتها بكُل الأعمال المنزلية وأعمال العناية والرعاية بمن هم أقل أو أكبر سناً. والشذوذ عن هذه القاعدة ليس الا اجزاماً على عدم جدارتها بأنوثتها أو أن أنوثتها غير مفيدة وغير مستعملة بعد، أو باللفظ العاميّ العُمانيّ "امرأة مش سنعة، وليست أصيلة وبنت بيت".

أبرزت أليف شافاق هذه الثنائيات الجنسية بصيغة تراتبية إلى: "(رجل امرأة)، (ذكر، أنثى)، (جريء، متواضعة)، (مسيطر، مسالمة)، (ثقافة، طبيعية)، (نهار، ليل) ،(عقلاني، عاطفية)، (عقل، جسد)، (واضح، حساسة)، (عمودي، أفقية)، (متحرك، مستقرة)، (متعدد الزوجات، الزواج بقرين واحد، أو الزواج بمزواج)، (فاعل، متكلمة)، (موضوعي، ذاتية)، مما يبعث على قدرٍ كاف من الغرابة أن النساء أيضاً اعتدن على التفكير بأنفسهن في هذا الضوء.... العلاقات التي نقيمها بيننا والأحاديث التي نتحدث بها معاً والأسلوب الذي نربي به بناتنا يخيم عليه ثنائية أنماط الجندر."

وبين هذا وبين وقعنا جميعا تحت رحمة ثنائية النظام الجندري، وتركيبته الاجتماعية المقيدة  والتي حتّمت علينا الامتثال بصفة صارمة ومتعسفة للأدوار الثقافية المحدودة والمحددة سلفاً في مجتمعاتنا.

أحد أهم هذه الأدوار هي الأمومة التي كانت – وما زالت - تُؤخذ محملاً زائداً عن الحد المطلوب، في بعض البلدان وفي حقب زمنية مختلفة، كفرنسا مثلاً كان الدور الأمومي واجباً دينياً ومقدّساً لا يقبل الجدال فيه. كما كان هذا الدور من أهم مواضيع الحركة النسوية اليابانية، بوصف الأم، آلة معطاءة، لا تنتهي تضحياتها الوردية، مجردة من أحلامها في سبيل الحب اللامشروط وتربيتها المقدّسة لأبنائها. حتى هذا التابو الأخير: "الأمومة" تم تفجير تصنيفه كدور من أدوار المرأة الثقافية أكثر من ما هو دور بيولوجي وطبيعي بالنسبة لهم.

وفي مجمل الحديث عن كينونة المرأة ودورها الثقافي، سؤال يفرض نفسه، مفاده أين نجد دورها إذا لم يكن فيما ذُكر سابقاً؟ وما هي أدوارها الحقيقية؟ وأين يمكننا البحث عنها؟! قد يطول مشوار البحث عن إجابات مطلقة لهذه التساؤلات ولكن يمكننا الإشارة هنا إلى ما نعته شافاق بـ "مثلث برمودا الخاص بـ:الزوجة المثالية، ربة البيت المثالية، والأم المتفانية" والذي يشكل محاولاتها في فهم ضياع شخصية المرأة في قلب هذا المثلث.

 في زوبعة هذا الثقب الأسود اختفت وابتُلِعت العديد من المواهب والإنجازات النسائية العظيمة، والتي كان من الممكن أن يصبح لها شأناً كبيراً، فبقت حبيسة (الزواج)، و(البيت)، و(الأمومة)؛ كمرتع وزنزانة للأفكار والمشاريع التي لقت حتفها قبل أن تولد. فكرة الثقب الأسود هي بالطبع فكرة عامة جداً، فمن باب الإنصاف، قد تُحرر العوامل السابقة بعض النساء وتدفعهن لمزيد من الإنجازات على كل الأصعدة، والأمثلة على هذه الحالات عديدة وواقعية، ولكن من جانبٍ آخر، يحدث كثيراً أن تدفن المرأة نفسها وتغوص في ذلك الثقب وتغرق به بطريقة بديهية ولا واعية، دون الالتفات لرغباتها الإنسانية الأخرى ودون الاهتمام بتحقيق ذاتيتها – كما الرجل - بمعزلٍ عن حالتها الاجتماعية، ودون تدخل طبيعتها البيولوجية في تحديد كيانها الإنساني.

أخيراً أرى أن مثل هذه الأصول الراسخة والتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كيان المرأة السوية، وأن النقلة الفكرية وانتشال هذه الصور النمطية للمرأة يتطلب وقفة صارمة وحقيقية وفتوة معرفية تؤمن بأن النفس البشرية لا تقبل التنميط وانما هي فروقات فردية مطلقة لا تنحاز لجنسٍ دون الآخر.

 

تعليق عبر الفيس بوك