"يا أبيِّ الغيط.. سلامٍ"!

 

 

غسان الشهابي  *

سيكُون من الممل الإعادة والزيادة في أهمية اللغة بالنسبة لأي أمة، على اعتبار أنها من أهم مقوماتها، وواحدة من الركائز التي يجتمع عليها أبناء أمة ما؛ لذلك فإنَّ الاعتزاز باللغة والحفاظ عليها وتطويرها والرقي من خلالها، سيكون من شؤون الأمم التي لا تنوي الاندثار أو الانتحار.

وفي محفل فكري وعلمي أقيم حديثاً، وقف الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، وفرش فيضاً من الكبائر في الأخطاء اللغوية، والخطايا من كل شكل وصنف ولون، فلم تكد تخلو جملة تامة من جُملِه من إخفاق في نصب ما يجب نصبه، ورفع ما يجب رفعه، وحتى قاعدة الكسالى المعروفة "سكِّن تسلم" لم يتبعها لتنقذه من مهاوي الردى التي وقع فيها. طيلة الخطاب كان رأسي ورأس زميلي متقاربين نعدِّد الأخطاء والسقطات واللحن، حتى تعبنا بعد ذلك وتبعثرت حساباتنا.

ليس أبو الغيط بدعاً من السواد الأعظم من مسؤولينا الذين يشكّ المرء أحياناً أنهم يتعمدون الخطأ في الكلام ليرسلوا رسالة مفادها أنَّ العربية ليست لغتهم الأساسية؛ فليعذرهم المستمعون لأن لديهم لغة أخرى يجيدونها، لغات علمية وعملية ورائجة وسائدة، لغات العلم والتطور والاختراعات والتكنولوجيا والاقتصاد والمال، ولكن من المؤلم أن من يقف على رأس الجامعة العربية يحتاج بصفة ماسة إصلاح "عربيته".

"اللغة العربية صعبة!" هذه أكثر الحجج رواجاً وتبريراً للانصراف عنها، أو لغض الطرف عن الأخطاء، فهي -في نظر الكثير من الناس- صعبة، وأكثر الله خير هذا الجيل أنهم لا يزالون ينطقونها، ولكن هذه حجة متداعية لأن لدى الأمم جميعاً صعوبات في لغاتهم، وتجاوز الكثير منها التعقيدات والتقعيرات، وجعلوا لغاتهم حيوية من جهة، وقادرة أن تحمل الأدب والفكر والثقافة، كما تحمل العلم والتكنولوجيا والثورة الصناعية الرابعة والمال والاقتصاد والطب...وغيرها من العلوم، واسألوا الصينيين والكوريين الجنوبيين والألمان والفرنسيين والإنجليز والروس وغيرهم من أمم؛ إذ لم يغادر أحد لغته لأنها صعبة، بل اشتغلوا فيها وبها ولها حتى تستطيع أن تتعايش معهم. لأنها -ببساطة- أمم قررت أن تبقى وتستمر وتتقدم الصفوف، ولا يمكن لأمة أن تبقى وهي عالة على لغة أمة أخرى، إلا إذا استسلمت وقررت أن تبقى عالة في كل شأنها.

لقد أقنعنا الاستعمار، نحن الشعوب العربية -وبعد التقسيم حيث صرنا الدول العربية- بأن نتخلى عن زراعة أراضينا لأنها مكلفة ونستورد -عِوَضاً عن ذلك- الزرع والضرع، وأقنعونا بالتخلي عن الصناعة وصداعها لأن بإمكاننا شراء ما نحتاج بأفضل المواصفات، وقبل ذلك أقنعونا أنْ نتخلى عن لغتنا لصالح لغات المستعمرين التي ستجلب لنا الرخاء والتطور.. وبعد كل هذه العقود، لا نحن سعدنا ولا "هم" يحزنون.

 

* كاتب بحريني