حتى لا يسبقنا العالم

حاتم الطائي

 

نريد أن تكون لعُمان بصمة واضحة على خارطة التكنولوجيا العالمية

غياب الدعم الحقيقي للمشاريع التكنولوجية الناشئة يفاقم التحديات

التسوّق الإلكتروني يمكن أن يقود النمو الاقتصادي إذا تهيأت له البيئة المواتية

 

 

في فترة التسعينيات من القرن الماضي ازدهرت على نطاق واسع أفلام الخيال العلمي وغزو الفضاء، وكان من يشاهد مثل هذه الأفلام إما أن يستبشر خيرًا بمستقبل البشرية بما يحمله من تقدم ورخاء، أو في المقابل يتوجّس خيفةً من أنّ التكنولوجيا ربما تضُر أكثر مما تنفع! وكان ذلك اعتقادًا خاطئا بامتياز لغياب المعلومات الكافية حول التكنولوجيا. لكن الآن وفي ظل ما يشهده العالم من ثورة معرفية وتقنية هائلة تخطت حدود العقل البشري، بات الجميع يسعى وراء اللحاق بركب التقدّم التقني ونيل السبق في الكثير من المجالات، منها الذكاء الاصطناعي أو الخدمات المالية التكنولوجية المعروفة باسم "فينتك Fintech" وإنترنت الأشياء وغيرها من مجالات التفوق التقني.

وبإلقاء نظرة واسعة فاحصة للتطور التقني في بلادنا، نجد أنّ الطموحات عديدة والآمال عريضة بأن تكون لعمان بصمة واضحة على الساحة التقنية العالمية، لكن في المقابل يبدو الأمر في حقيقته يحتاج إلى مزيد من الجهود الكفيلة بأن تتحول عمان بالكامل إلى المسار التقني. فكيف نصدق أن هناك تحولا تقنيًا تشهده بلادنا ونحن لا نزال نتعامل بأنظمة عفا عليها الزمن، فهناك العديد من المؤسسات الحكومية أو الخاصة مستمرة في تخليص إجراءاتها بطرق تقليدية لا تعتمد على التكنولوجيا في صورتها الحديثة! ومن أبسط دلائل ذلك أنّ وزارات ومؤسسات وبنوك لا تزال تتراسل عبر "الفاكس" بدلا من البريد الإلكتروني في معاملات يومية.

جانب من التحوّل التقني في السلطنة تحقق بفضل استراتيجية عمان الرقمية، التي تمّ اعتمادها في 2003، أي قبل 16 سنة، دون أي تطوير يذكر، رغم أنّها كانت استراتيجية للمستقبل.. ورغم ذلك وقبل سنوات قليلة، تمّ الإعلان عن تحديث هذه الاستراتيجية لتضع 3 أهداف تسعى لتحقيقها، وهذه الأهداف هي: تطوير صناعة تقنية المعلومات، وتمكين المجتمع والأفراد، وتطوير الخدمات الإلكترونية. وبتقييم موضوعي لهذه الأهداف الطموحة، يمكن القول إنّ نسبة ما تحقق منها لا يزال في مستويات متدنية، فتطوير صناعة تقنية المعلومات في السلطنة لم يتحقق، فلم نجد حتى الآن مشروعا عمانيا تقنيا متكاملا، والأمر لا يعدو طرح عدد من الأفكار الابتكارية لشباب مبتكر قرر خوض التجربة بنفسه دون انتظار دعم من أي جهة، ولذا نجد أغلب هؤلاء المبتكرين المبدعين يشاركون بمفردهم في المحافل الدولية، دون أن يكونوا ممثلين لجهات يُفترض أنّها داعمة للتحوّل التقني أو منفذة لجهود نشر التكنولوجيا في السلطنة، ومعظم من يشارك في مثل هذه اللقاءات هم من فئة الطلاب، ومن النادر جدا أن يكون أحدهم رائد أعمال أو صاحب شركة ناشئة أو حتى مبتكر فرد مدعوم من شركة كبيرة؛ أي أنّ هذه المشاركات لا تعكس أي تطور تقني، بل نماذج محدودة الأثر والتأثير، وضعيفة التمويل وتكاد تكون منعدمة الدعم. وعندما أتحدث عن الدعم هنا للمشاريع التقنية القائمة على الابتكار، فإنني أشير بوضوح إلى مؤسسات الدولة المعنية بتسهيل الإجراءات لهؤلاء المبتكرين، وتهيئة البيئة التشريعية الملائمة التي تمكنهم من تحويل أفكارهم إلى مشروعات على أرض الواقع. الدعم هنا مسؤولية القطاع الخاص أيضًا الذي يتعيّن عليه أن يخصص جزءًا من ميزانيته السنوية لجهود دعم الابتكار والبرمجة والتطوير، فهناك البنك الذي يحقق أرباحا بمئات الملايين، لكنّه لا يخصص ريالا واحدا لدعم المبتكرين، لا أتحدث عن نفقات المسؤولية الاجتماعية، فهذا أمر آخر، لكن أين هي المؤسسة أو الشركة التي تخصص جزءا من ميزانيتها السنوية لإنشاء قسم للابتكار داخل المؤسسة، وتوفر بيئة حاضنة لأصحاب العقول الابتكارية- وهم كُثُر في بلادنا ولله الحمد- تمكنهم من تحويل أفكارهم إلى مشاريع رائدة، تغزو بها العالم. وهذا أمر ليس مستحيلا، بل إننا عندما ننظر إلى كبرى شركات التكنولوجيا نجد أنّها بدأت كمشروعات صغيرة للغاية، فمثلا موقع "فيسبوك" منصة التواصل الاجتماعي الأشهر في العالم، كانت في بداية الأمر مشروعًا طلابيا هدف إلى بناء آلية للتواصل بين طلاب جامعة هارفارد، ثم تحوّل ليشمل طلاب جامعات أخرى، وأخذ في التطور ليشمل في الوقت الحالي أي فرد يبلغ من العمر 13 عاما فما فوق، ووصل عدد مستخدمي الموقع إلى أكثر من ملياري مستخدم، فيما نمت أرباح هذا الموقع إلى 6.8 مليار دولار، بنمو 61% في عام 2018 فقط.

نموذج آخر هو شركة أمازون، عملاق التجارة الإلكترونية في العالم، بدأت بفكرة لمؤسسها جيف بيزوس عام 1994 لبيع المنتجات عبر الإنترنت، ثم تطور الموقع ليصبح السوق الإلكتروني الأضخم في العالم، وقد حققت أرباحا بـ2.53 مليار دولار فقط في الربع الثاني من العام الجاري، أي أنّه بنهاية العام قد تصل الأرباح إلى أضعاف هذا الرقم. ليس هذا فحسب، بل إنّ موقع أمازون حقق مبيعات عبر الإنترنت يوم "بلاك فرايداي" فاقت 7.4 مليار دولار فقط في يوم واحد، وهذه المبيعات تفوق موازنات دول بأكملها!

مشروع آخر أود الإشارة إليه، وهو موقع "علي بابا" الصيني، الذي تأسس في عام 1999 وتحول إلى منصة رائدة للتجارة الإلكترونية تنافس مواقع أخرى مثل أمازون، وليس غريبا أيضا أن يحقق "علي بابا" مبيعات بمناسبة "يوم العزاب"- وهو مهرجان سنوي للتسوق- فاقت الـ30 مليار دولار في يوم واحد وحسب، فلنا أن نتخيّل حجم الفرص العظيمة التي تمنحنا إيّاها التكنولوجيا والتسوق الإلكتروني في أسواق بلا حدود، وهذا التسوّق الإلكتروني قادر على أن يقود النمو الاقتصادي بل وتحقيق قفزات نوعية في مداخيل العاملين في هذا القطاع.

وهذه المشاريع وغيرها لم تكن لتنجح لولا وجود البيئة التشريعية المواكبة لتطور مثل هذا النوع من التجارة والأعمال، وأيضا وجود البنية الأساسية التي تمهد الطريق لهكذا نجاحات، والأهم من كل ذلك وجود رأس المال المغامر القادر على ضخ رؤوس الأموال في هذه المشروعات. لكننا عندما ننظر إلى واقعنا المحلي، لا نجد أي استعداد لدى أي شركة كبيرة بالقطاع الخاص لتمويل مشروع ناشئ أو دعم مبتكر كي يطور ابتكاره. والنماذج عديدة ومتميزة، أستطيع أن أخص منها الشباب المبدع الذي نلتقيه سنويا منذ عام 2012، عندما أطلقنا جائزة الرؤية لمبادرات الشباب، حيث إننا منذ ذلك الحين التقينا بالمئات من الشباب المبدع من جميع ولايات السلطنة، وتعرّفنا على العديد من المشروعات المتميزة والرائدة في شتى مجالات الابتكار، منها اختراعات تحولت بالفعل إلى مشاريع ناجحة تبنّتها أهم مؤسسات الدولة، وحققت نجاحات كبيرة. لكن ماذا عن باقي المشاريع التي لم تجد الدعم الكافي رغم عبقرية الفكرة القائمة عليها، ورغم المستقبل الواعد الذي ينتظرها حال تطبيقها؟!

إننا في أمس الحاجة إلى وضع خارطة طريق للتطور التكنولوجي في عُمان، وهذا لن يتحقق إلا من خلال خطوات عملية تسرع من وتيرة التقدم في هذا المضمار العالمي شديد التنافسيّة، منها: الإسراع في مواكبة تقنيات الذكاء الاصطناعي، من خلال تهيئة بيئة تعليمية متميّزة تعزز معارف الطلاب بالتكنولوجيات الحديثة، وتضع أقدامهم على درب التقدّم العلمي. أيضًا نحتاج إلى تشريعات تواكب المتغيّرات، ليس فقط فيما يتعلق بالابتكار، ولكن في جوانب أخرى مثل الدفع الإلكتروني، فمن غير المعقول مثلا أن تواجه شركة ناشئة متخصصة في التجارة الإلكترونية صعوبات عديدة من أجل الحصول على جهاز الدفع الإلكتروني من أحد البنوك، حتى إنّ الأمر يستغرق أكثر من 3 شهور!

يجب أن تعمل مؤسسات الدولة على تحديث وتطوير منظومة العمل التقني، منها على سبيل المثال تحديث نظام التسويات المالية المعروف باسم "سويفت" والتحول نحو بدائل أكثر تطورا، وهذا من شأنه أن يحوّل عمان إلى مركز مالي متقدم ومحطة لتحويل الأموال في المنطقة والعالم.

خلاصة القول.. إنّ التقنيات الحديثة تتطور بصورة متسارعة، فتقنيات اليوم الحديثة تتحول إلى الماضي بعد شهر أو شهرين، ولذا لا بديل عن مواكبة التطور إلا عبر صياغة استراتيجية وطنية للتقنية، وقد استبشرنا خيرا بإنشاء وزارة التقنية والاتصالات والتي نعول عليها الكثير لإنجاز هذه الاستراتيجية، لترسم لنا طريقا واضحا نسير على خطاه نحو آفاق تكنولوجية أرحب تمكننا من الولوج إلى المستقبل بسرعة وتقدم.